من فلسطين من إجزم قضاء حيفا ، كلمات لم ولن أنساها ، كلمات بح صوت والدي ، رحمه الله ، وهو يلقنني إياها منذ نعومة أظافري بل كانت من أوائل الكلام الذي تعلمته بعد أسمي ، لم أكن اعرف معناها حينها فظننت انها جزء من اسمي أو لقبي ، لكنني أحببتها فكان لها صدى النشيد ، كنت أحب لسماعه .
كلمات لن أنساها ولطالما تردد صداها في آذاني وحين عرفت معناها ازددت حبا لها وهياماً ، لم تسمع أذناي مثلها ، فلسطين ، عشقي الأول والأخير ، ظلت هذه الكلمة تطاردني أينما حللت ، لغز حيرني وبحثت له عن جواب فما استطعت ، بت أتسمر يوميا أمام التلفاز أستمع نشرات الأخبار، وكنت من متابعيها على الرغم من صغر سني ونعومة أظافري ، ولم يكن في تلك النشرات شيء يهمني بقدر القضية الفلسطينية وأخبار أهلنا في فلسطين الحبيبة ، فكنت آخذ زاوية في البيت صغيرة لأتقوقع فيها ، بينما الجميع في البيت منشغلون أما بالأكل أو اللهو أو ممارسة هواياتهم ، بينما كنت أجلس وأترقب بشغف وأتابع مشاهد القتل والدمار، وأرى كيف يقتل المحتلون أطفال بلدي ، ويهدمون البيوت فوق رؤوسهم ورؤوس آبائهم ، على مرأى ومسمع من العالم كله ، ولا من مجير لهم ولا مغيث إلا الله ، وكانت تنهمر دموعي أمطاراً على ما رأيت وسمعت ، فتأتي أمي الحنونة لتهدئ من روعي ، وتقول لي : لا تبك يا بني فهذه الأخبار هي نفسها تعاد كل يوم ولا جديد ، فأجيبها : نعم يا أمي لكن القتلى ليسوا أنفسهم يا أمي ، وأمضي مسرعاً إلى غرفتي لأكمل ما بدأته من بكاء ، وأسأل نفسي لم هم وحدهم ؟؟ لم لا أحد يدافع عنهم ؟ ألسنا أمة المليار ؟؟ ألسنا أمة خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام ؟! ولماذا لا يصيبنا ما يصيبهم لنكون في الحال سواء ، لماذا لا يسقط هذا السقف على رأسي ليكون حالي كحال أطفال فلسطين الأبرياء .
استمرت هذه الأفكار تراودني ، وبقيت على هذا الحال إلى يومنا هذا ، فلا شيء تغير في هذا الشأن ، فالقتلة مستمرون في قتلهم ، وأبناء شعبنا الصامد مازالوا يقاتلون ويدافعون عن أرضهم وحدهم ، ولا شيء متغير سوى أعداد القتلى والشهداء بإذن الله الذين مازالوا في ازدياد يلقون حتفهم بمجازر جماعية يندى لها جبين الإنسانية جمعاء .
هذا كله وأنا أحاول أن أجد لهذا اللغز المحير حلاً ، ولا استطيع ما الذي يدفعني لحب هذه الأرض التي لم أرها ولم تطأ قدماي ثراها ؟! ، ما الذي يجعلني أتسمر ويقشعر جسمي وترتعد مني الفرائص ، حينما أتذكر وطني ، وطني ؟! ، وطني أنا ؟! ، وهل لمثلي وطن ؟! ، ما أجمل أن يكون للإنسان وطن ، أنا في الغرب بلا وطن ، وفي الشرق لاجئ ونازح ، وفي فلسطين حمساوي وفتحاوي ، غريب حتى في وطني يا لهمي ويا لمأساتي ، وأما في العراق فحدث ولا حرج ، قتلي على الهوية ، وجنسيتي تكفي لأكون إرهابي القضية ، ولأعرض على قناة العراقية ، محروم من التنقل بحرية ، أو عيشةً هنيةً ، وإذا هربت كانت الصحراء تنتظرني كما تنتظر وحوش الغاب الضحية ، لأقبع في الخيمة ، أيقونتي العُمرية .
ومع ذلك ومع حالة الإنكار التي يعيشها أبناء جلدتي تجاه قضيتهم المصيرية ! ، إلا من الشعارات الرنانة الطنانة ، فأنا باقٍ على عهدي وفيٌ لأرضي ، أنتظر عودتي لها ، بدون أن تقف بصفي الشرعية الدولية ، ولا الدول الغربية ، فحق وراءه مطالب سيعود بإذن الله ، وسأعود إلى أرضي وبيت أبي وجدي إن شاء الله ، هناك في اجزم قضا حيفا صورة شاخصة أمامي لا تحيد عن مخيلتي ، وكأنني أركض كالأطفال ، أقفز على التلال، أعانق الأرض وأشكر رب السماء ، تلك أمنيتي وهذا دعائي ربي أن لا تمتني إلا على فلسطين أرضي .
أما السؤال الذي ظل يطاردني : متى ؟ ، متى يا ربيع فلسطين تزهر ثمارك ، متى يا ربيع فلسطين تتفتح أزهارك ، متى يا ربيع فلسطين تفيء علينا بظلالك ، متى وكل البلدان أتى ربيعها ، وفلسطين لا تعرف من الفصول إلا خريفها ، متى يا ربيع فلسطين تعيد البسمة إلى وجوهنا ، والدم إلى عروقنا ، والحب إلى قلوبنا ، متى ؟ ، متى؟ .
بقلم : محمد ماضي
23/11/2011
المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"