صحيفة فلسطين: أيها "العراق البائس"..يودّعك الفلسطينيون نحو "المجهول"!

بواسطة قراءة 4543
صحيفة فلسطين: أيها "العراق البائس"..يودّعك الفلسطينيون نحو "المجهول"!
صحيفة فلسطين: أيها "العراق البائس"..يودّعك الفلسطينيون نحو "المجهول"!

بعد سوءِ معاملتهم من قبل "حكامه الجدد"

أيها "العراق البائس"..يودّعك الفلسطينيون نحو "المجهول"!

صحيفة فلسطين: الأحد, 20 مارس, 2011

تقرير- سيد إسماعيل

"أحمد! لا نستطيع مغادرة العراق وقد بقيَ على تخرجك من الجامعة شهران فقط!"..قالها محمود الحلو لولده، فيما كان رد الابن معروفاً له و"مُسكِتا" في الوقت ذاته:"أن أخرج من العراق بلا شهادة خيرٍ من تهديدهم بخطفي أو خطف أحد أفراد أسرتنا، وقتله فيما بعد!"، لا نستطيع البقاء ولو ليوم واحد في العراق بعد أن علمنا أن هناك من يريد اختطاف أخي علي بهدف نيل الفديةِ منا!".

أخفضَ الأب رأسه بأَسى قائلاً:" بعد غزو العراق ها هو المشهد يتكرر بالنسبة لعشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين المقيمين فيه، إنها ذات مآساة الضياع..من جديد هم يضطرون للتخلي عن كل شيء من أملاكٍ وبيوت، ليفروا على عجل خوفاً على حياتهم، ونحو المجهول.. والأهم من ذلك كله: بلا مستقبل!.

"البائسون حيثما كانوا!"

وكأن الشقاء "خليلٌ وفيّ" لعائلة محمود الحلو يلازمها حيثما حلّت، فقد هُجِّرَ والداه من قرية المزار قضاء مدينة حيفا إلى العراق، قبل أن يتوفّى الأب تاركاً وراءه زوجته وابنته الصغيرة، وابنه محمود الذي لم يقدّر له رؤية والده لأنه كان ساعة الوفاة "جنينا"، تزوجت الأم من جديد برجل أرمل كان لديه هو الآخر ستة أطفال من الذرية، ليبدأ فصلٌ جديد في حياة محمود.

منذ "المنعطف الأول" في القصة كان صوته العميق عبر الهاتف يحث "فلسطين" على الإصغاء لوجع متتالٍ في تراجيدية أحداثه التي بدأت من هنا:"كنا نسكن في حيٍ بائس جداً بمدينة بغداد اسمه "قنبر علي"، لم نعرف وقتها "وجبة الإفطار" مطلقاً، وكان اللحم "ترفاً" خارج حساباتنا، لم يكن أمامي إلا أن أعمل باستمرار أثناء دراستي، حتى أعيل أسرتي، والأمل الوحيد الذي كنت أتطلع إليه هو التعليم..فهو سبيلنا الوحيد للخروج من هذه "الفَاقة"، وبذلك لم أتمتع بحياتي مثل بقية الناس:لا في طفولتي ولا في شبابي أو حتى كهولتي!".

توقف لثوانٍ بسيطة قبل أن يستمر في السرد:"لقد كانت سنواتٌ كلها مشحونة بالعمل، بلغتُ أكثر من خمسةٍ وخمسين خريفاً، ولم أتمتع من عمري بشيء، طيلة الوقت كنت أعمل من أجل تدبر أمر أفراد أسرتي، حتى خلال دراستي الجامعية بقسم الكيمياء!، واستمر هذا الأمر حتى وقت زواجي عام 1983 ".

فتحت أبواب الرزق على محمود قبل زواجه بعامين، حيث استطاع العمل في أحد مؤسسات هيئة الأمم المتحدة بالعراق، واستطاع بذكائه وإجادته للغة الإنجليزية أن يرتقي بالمناصب حتى أصبح خلال وقت قصيرٍ رئيساً لقسم النقل، حيث كانت من مهمّاته استجلابِ كافة المنقولات التي تخصّ مكاتب الأمم المتحدة بالعراق، وصار يمتلك راتباً مجزياً أهّله لشراء "فيلا" كبيرة بمنطقةٍ محترمة، مع سيارتين لأهل بيته، لكن كل مكتسبات عمله عبر سنوات ضاعت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2007.

انقلب جحيماً

بدأت المرارة تظهر جلياً في نبرة الحاج محمود وهو يضيف:"بمجرد رحيل نظام الرئيس صدام حسين، خسرنا أهم حمايةٍ للوجود الفلسطيني على أرض العراق، فقد صرنا فجأة "أجانب" و"سنّة"، بينما كان جل جيراني في المنطقة من الشيعة الذين كانوا يتأملون مكتسبات عملي بالأمم المتحدة على مدى سنوات بحسد واضح، كما بدأت حالات خطفٍ وقتلٍ وترويع تتصاعد ضد الفلسطينيين من قبل الميليشيات التي ملأت الأراضي العراقية بالفوضى والعنف الطائفي عقب الغزو الأمريكي".

إن الحديث عن صنوف المعاناة التي لقَيها أبناء الجالية الفلسطينية في العراق بحاجةٍ إلى عشرات الآلاف من الصفحات، وبعضها مذكور في موقع "فلسطينيو العراق" على الإنترنت، فقد كان الفتى يختطف لتطالب العصابة المختطفة له بفدية بعشرات الآلاف من الدولارات، قد يستطيع الأب البائس توفير جزء منها فيقوم بتسليمها للعصابة ليجد أن ابنه "قتل"، وأن جثته في "ثلاجة" إحدى المستشفيات العراقية! وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد.

يكمل الحاج محمود أو "أبو أحمد" كما يُعرف بكنيته:"ذهب أحد معارفنا لاستلام جثة ابنه مصطحبا معه أخ زوجته وزوج ابنته، ليقتل ثلاثتهم داخل المستشفى من قبل إحدى "فرق الموت الشيعية" هناك، وبهذا صار للعائلة "أربع مصائب كبيرة"، لا مصيبة واحدة! لم يكن الرجل منا يأمن على نفسه عند الخروج إلى السوق، وكثيراً ما كان الخروج لشراء "ربطة خبز" يساوي حياتك! ".

صار الخوف في العراق جزءاً من الحياة اليومية للعراقيين والفلسطينيين على السواء، فالانفلات الأمني قائم، والقتل والانفجارات تدوّي في كل جزءٍ من مدينة بغداد، فيما اعتقالات الجيش الأمريكي مستمرة وبلا تمييز، فضلا عن انتشار حالات السطو المسلح، في بلد انتهى كل شيء فيه إلى التفكك، وانهارت كل مؤسسات دولته: الجيش، الشرطة، القضاء، التعليم. وهو ما أنذر بكوارث بدأت تظهر بوادرها في الأفق تقترب من الفلسطينيين المقيمين فيه، لكن أيا منهم لم يتوقع ما وصلت إليه الأمور قط على كل الصعد.

البنى التحتية بالعراق أصبحت في وضع كارثي، شبكات المياه شبه معطلة تقريبا وبالكاد يحصل العراقيون على ما يكفيهم من المياه، حتى بعد ثماني سنوات من الاحتلال! أما الكهرباء، التي نجح "النظام الاستبدادي البائد" في إعادتها للعراق بأكمله بعد ستة أشهر فقط وبالطاقة الكاملة تقريبا، مكتفيا بـ"الجهود الذاتية والإمكانيات العراقية المحلية"، فإن الاحتلال الأمريكي ومن يتعاونون معه من "حكام العراق الجديد" لم يستطيعوا إمداد العراقيين بالكهرباء-في الوقت الحالي- لأكثر من ساعتين فحسب يوميا!.

ووسط كل هذا برزت كارثة أكبر، تتحدث عنها زوجة محمود بالقول: " لقد أبصرت النور بالعراق وعشت حياتي كاملة به، وقد كنت أجد في العراقيين أخوة لي، لكنني وجدت بعد الغزو "عراقا جديدا" بكل المقاييس لم أعرفه في حياتي قط: "تبدلت النفوس"، حلت الكراهية محل مشاعر الأخوة والاعتزاز بوجودنا، وبدأت حملة تأليب الشعب العراقي ضدنا بأننا "المتسببون بكل هذا الدمار"، و"الشركاء الأساسيون" لنظام صدام حسين في جرائمه ضد العراقيين"!! ".
دعايةٌ مضادة

ثم بدأ صوت المرأة يعلو شيئا فشيئاً، وهي تواصل كلاماً يؤلم القلب:"لقد نسوا كل ما قدمناه لهذا البلد على مدى عقود، وقد قلتها لهم مراراً:ألم نشارك نحن كجالية فلسطينية ضئيلة العدد في بناء بلدكم يداً بيد؟!، ألم نتحمل سويةً مرارات الحروب المتتابعة على العراق، والحصار الذي سبق احتلال أمريكا لبلادكم؟ ما الذي جرى إذن لتنسوا كل هذا في غمضة عين، لتحمّلونا أوزاركم وأسباب ما جرى لهذا البلد؟! وللأسف يا ولدي لم يقتنع أحد منهم بما قلته".

كان تأثير الدعاية المغرضة ضد الجالية الفلسطينية بالعراق من قبل "عملاء الاحتلال الأمريكي" من الشيعة والسنة على السواء- أو "العرب والأكراد" إذا أردنا التفريق على أساس العرق- قوياً على فئات الشعب العراقي المختلفة، والذين أسسّ الكثيرون منهم ميليشيات مسلحة أشاعت الرعب في قلوب مختلف فئات العراقيين دون استثناء، وكان للفلسطينيين من هذا "الإرهاب المنظم" نصيب الأسد!، ولكن مع فارقٍ كبير:"للعراقي وطنٌ يحتمي بوجوده"، والأمل بتحسن ظروفه ممكن مما يعني احتمالية عودته، أما الفلسطيني فلا يوجد أمامه سوى "الفرار خارج العراق في طريقه نحو المجهول"!

يقول أبو أحمد: " اختطف أحد فتيان المنطقة من أجل نيل الفدية، ولما سأله الخاطفون عن اسمه وتأكدوا من أنه عراقي أعادوه إلى أهله بعدها بأيام قلائل، فتأكدنا ساعتها أن المقصود بذلك ولدي الأصغر علي! خاصةً وأن الخاطفين سألوا الفتى المختطف عن جنسيته، ولا يوجد في الشارع بأكمله سكان فلسطينيون أو حتى أجانب غيرنا! وهنا وجدنا أنفسنا أمام خيارات صعبة حقا، أحلاها "علقم" ..".

كان على أبو علي أن يواجه هذا التحدي الكبير:هل يبقى في العراق عسى أن تتحسن ظروفه الأمنية شيئا فشيئا، مع بذل المزيد من الاحترازات حرصا على نفسه وأسرته؟ أم يغادره بأسرع وقت ممكن ليلحق بألوف الفلسطينيين الذين فروا خارج العراق نحو "مجهول" لا يعرفون عنه شيئا؟؟
لم تكن المعادلة سهلة، حسبما تقول أم أحمد:"كان ولدي أحمد على وشك التخرج من تخصص الكيمياء التطبيقية، كما أن ابنتي كانت في السنة الثالثة من ذات التخصص، فضلاً عن أن جل أولادنا موزعون في مختلف المؤسسات التعليمية التي كانت على وشك إنهاء عملها في نهاية العام الدراسي، فكان قرار المغادرة صعبا بكل تأكيد ".

تابعت الأم بعدها قائلةً: "كنا نفكر بعقلية أن "نشأنا بالعراق ولن نتركها إلا للذهاب إلى فلسطين، وما سيجري على ستةٍ وعشرين مليون عراقي سيحدث لنا أيضاً"، لكن كافة الحسابات اختلفت مع التهديدات الأمنية المختلفة التي وصلت إلى حد التهديد باختطاف أبنائنا..

قرر الحاج محمود اختيارأخف الضررين:فر بنفسه وأسرته من العراق باتجاه سوريا بجوازات سفر عراقية حصل عليها عبر رشاوى باهظة لبعض الموظفين العراقيين، حيث بلغ ثمن الجواز 700 دولار!!.

وهو مبلغ باهظ جداً لم يستطع جل أبناء الجالية الفلسطينية توفيره، إلا أن مبلغ التقاعد المحترم الذي حصل عليه من عمله بالأمم المتحدة كفلَ له "شراء" هذه الجوازات التي اضطر لدفع ثمنها، لأنه لم يكن يمتلك سوى وثيقةٍ سفر عراقية ستكون معيقاً كبيراً في تنقّله بين الدول العربية.

ويتابع أبو أحمد:"وهكذا يا أخي وجدت نفسي أتجه نحو المجهول أنا وأسرتي، ولأجدَ أنني بعد نصف قرنٍ من عمري، وكل ما بذَلته من جهودٍ مستمرة لبناء كيانٍ لي ولأسرتي، داخل العراق قد ذهب سدى..".

غادر الحاج محمود بأسرته إلى سوريا عام 2006، حيث استطاع تدبر أموره والإنفاق عليهم بما تبقى من معاشه كمسؤول سابق في الأمم المتحدة، بينما قرر ولده السفر إلى الهند مع عشرين مهجرا آخر من العراق بحثا عن واقع أفضل.

وداعٌ.. بالهند

"ابنك مريض جداً يا أبا أحمد..!".

قالتها له زوجته بـ"لوعةٍ" واضحة تؤكد أن "وضع أحمد خطير جداً"، كانت هذه الجملة بداية لـ"قصة النهاية" بالنسبة لأحمد، الابن البكر لدى الحاج محمود، والذي استطاع العمل في مدينة نيودلهي كمترجم لدى السفارة الإماراتية، وتدبر رزقه هناك وذلك بسبب لغته الانجليزية الممتازة، وبدأت أموره المالية والمعيشية تتحسن بالفعل، فما الذي جرى؟!.

كانت أنفاس الحاج أبو أحمد تتلاحق بفعل توتره عند روايته لهذا الجانب من حكايته:"سافرتُ إلى الهند، وانطلقتُ إلى المستشفى لأراه: وجدته بعد سؤال معارفه عنه ممدداً على سريره في قسم العناية المركزة بأحد المستشفيات الهندية، أخبرني الأطباء بأنه أصيب بسرطان الدم وأن حالته متدهورة جدا ولا أمل في شفائه، ليلاقي ربه بعدها بأيام قلائل! ".

دفن أحمد في مقبرة إسلامية بنيودلهي بعيدا عن فلسطين التي حمل اسمها، أو العراق الذي كان بمثابة "وطنه الثاني" الذي تنكر له أبناؤه، كان الأمر صعباً للغاية على والده الذي فقد الكثير.

ثم استمرت وتيرة كلامه متدفقةً بقوة وهو يكمل:"وأخيراً ها أنا أفقد ولدي أحمد في الغربة.. سبحان الله! فررتُ به من العراق خوفاً عليه من الموت على يد الميليشيات العراقية، فإذا بي أدفنه غريباً لا مؤنس بالهند!، لا يوجد لدي ما أقوله أمام هذه الكوارث المتلاحقة سوى أن يلهمني الله الصبر. هذا قدري كفلسطيني!".

عاد أبو أحمد بعدها إلى سوريا، لكنه اضطر إلى مغادرتها على عجل خوفاً من افتضاح أمر وثائقه العراقية المزورة، وما قد يجّره ذلك من مشاكل الاعتقال والسجن بسببها، فكان الحل الوحيد أمامه هو "اختيار اللجوء الإنساني إلى جزيرة قبرص"، بحكم أنها جزء من الاتحاد الأوربي، ليبدأ بذلك "جزء درامي جديد" من حكايته، لا يقل بؤساً على الإطلاق عن سابقه في العراق..!

تتبع بقية القصة في الأسبوع القادم..

المصدر: صحيفة فلسطين

فلسطين أون لاين الموقع الالكتروني لصحيفة فلسطين