ففي 18 فبراير 1978 حين كان وزير الثقافة المصري يوسف السباعي يحضر
مؤتمراً آسيوياً أفريقياً في قبرص تم اغتياله ، قتله فلسطينيان في عملية أثرت على
العلاقات المصرية القبرصية، وأدت إلى قطع العلاقات بين قبرص ومصر، وذلك بعد قيام
وحدة عسكرية مصرية خاصة (كوماندوز) بالهبوط في مطار لارنكا الدولي للقبض علي
القاتلين دون إعلام السلطات القبرصية!! حيث احتجز القاتلان بعد قتل السباعي نحو
ثلاثين من أعضاء الوفود المشاركين في مؤتمر التضامن الأفرو-آسيوي كرهائن،
واحتجزوهم في كافيتيريا الفندق مهددين باستخدام القنابل اليدوية في قتل الرهائن ما
لم تستجب السلطات القبرصية لطلبهما بنقلهما جوا إلى خارج البلاد، واستجابت السلطات
القبرصية لطلب القاتلين بدافع الحرص على عدم توسيع العملية وإراقة الدماء، وتقرر
إقلاعهما على طائرة قبرصية من طراز (DC8) للسفر خارج قبرص من مطار لارنكا، لكن القوة المصرية كانت قد دخلت
في اشتباك مع قوة من الجيش والأمن القبرصيين، ودارت معركة بين القوتين،أدت إلى
مقتل وجرح معظم أفراد القوة المصرية وجرح عدد من أفراد القوة القبرصية ، واتهمت
لاحقا منظمة أبو نضال (صبري البنا) بعملية الاغتيال .
بعد هذه العملية التي لا دخل للشعب الفلسطيني فيها، ولا ناقة له
فيها ولا جمل، حركت السلطات المصرية جيش العاهرات و"القوادين" من
إعلامها الفاجر ضد الفلسطينيين، كل الفلسطينيين، في حملة انتقامية مسعورة لا يمكن
مقارنتها بغير حملتهم المسعورة اليوم ضد كل ما هو إسلامي مما تشاهدون وتسمعون ..
لقد كان هدف حملتهم الإعلامية تحميل الفلسطينيين مسؤولية عمليتهم العدوانية
الفاشلة ضد قبرص، وتحميل الفلسطينيين كلهم تبعة مقتل السباعي!! .
كتبت الصحف، وكتبت المجلات، وعرض التلفزيون والإذاعة كل ما يسيء
إلى فلسطين والفلسطينيين ، كنتُ في الثانية عشر من عمري حينذاك، رأيت أبي رحمه
الله مرة وهو يبكي بمرارة وألم مما قرأه في صحيفة مصرية كتبت شتائم معيبة وكلمات
بذيئة بحق الفلسطينيين .. في أحد صباحات القاهرة ذهبت إلى أحد باعة الفول، أرسلوني
لآتي بوجبة الصباح المصرية، ولما جاء دوري وانتبه بائع الفول إلى لهجتي غير
المصرية سألني: انت منين ياد؟ (يا ولد) أجبته بسرعة وبفخر لطالما كان أبي يعلمنا
إياه في الصغر : فلسطيني .. فأخذ الطبق من يدي وألقاه على الأرض، وصرخ في وجهي :
إطلع برة يا ابن الــ تييييت .. وكمان بتؤولها بكل بجاحة ؟ إطلع يا ابن الــــ
تييييت يلعن أبو شرف أمك ابن ستين ... تيييييييت .. آل فلسطيني آل يا ولاد الحرام،
يا اللي بعتو أرضكو، ده اليهود أشرف منكو ربنا يحرأكو بجاز ....... إلى قائمة
طويلة من الشتائم التي ما زلت أتعجب منه كيف حفظها ولم يتلعثم وهو (يلقيها) على
مسامع طفل في الثانية عشر ..
أما أنا فكنت أبكي بحرقة لأنني لم أكن أعلم سبب هجوم الرجل علي،
ولا سبب تأييد معظم الزبائن له، إلا من آثر السكوت منهم !! .. لكنني علمت بعد
إدراكي للأمور أنه حتى هذا الرجل وزبائنه كانوا ضحايا إعلام مصر العاهر الفاجر ..
إنما ذكرت هذه الحادثة التي لن تمحى من ذاكرتي لكم اليوم لكي لا
نكون نحن أيضاً من ضحايا الإعلام العربي الذي هو اليوم في بعض قنواته يجعل كل ذي
عقل يترحم على إعلام مصر -على عهره في ذلك الزمان - .. كلهم يدعوننا إلى محاربة أنفسنا وكره بعضنا،
وصدق الله إذ يقول : { ... وفيكم سماعون لهم ... } .
في ظهيرة يوم 1978/4/24 أي بعد أقل من شهرين على تلك الحادثة حطت
طائرة رومانية في مطار بغداد القديم (مطار المثنى) وكنا من بين ركابها، بعد أن قرر
أبي - على الرغم من حبه لمصر الذي يجري منه مجرى الدم - مغادرتها إلى الأبد، بعد
أن عاش في مصر، وعاشت هي في قلبه منذ أربعينيات القرن الماضي، فلم يزل يعيش
الغربتين حتى توفاه الله على أرض بغداد .
عبدالحميد شاهين
أبو عزام
24/9/2013
"حقوق النشر محفوظة لموقع "
فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"