فالتهجير والتجزير، اللذان باتا القاسم المشترك الأكبر
بين شعوب المنطقة، دائماً ما تحضر فلسطين لدى كلّ حلول لهما، في القياس والتمثيل،
فما حلّ في فلسطين قد ضرب ما يشبهه مناطق متعددة من هذا المشرق العربي المنكوب،
وضرب معه لاجئين فلسطينيين في شتاتهم، صاروا يشكّلون مثالاً مرعباً عن تلك الذروة
في حكايا التهجير والنكبات، نموذجها هنا لاجئ من فلسطيني العراق، وهم الشريحة
المنسيّة في زحمة الأخبار والاهتمام و السرد.
ابن
الجيل الثاني لنكبة فلسطين يعيش نكبتي العراق وسوريا
أحمد صالح أبو زيد مواليد 1980، ابن بلدة
"إجزم" قضاء حيفا بفلسطين المحتلّة، وابن الجيل الثاني للنكبة
الفلسطينية، جدّه ووالده من بلده الأم، مع آلاف هجّرتهم العصابات الصهيونية عام
1948، وأن يكون العراق وجهتهم، حيث ولد أحمد في بغداد، و كأي فلسطيني في الشتات،
ورث حكايا نكبة و تهجير أبناء بلده منذ طفولته، ليختبر بعد أكثر من 23 عاماً من
ولادته، وقع معانيها القاسيّة في مكان وزمان مختلفين.
تسعة
وثلاثون سنة، عمر أحمد اللاجئ الفلسطيني، قضى منها ثلاثة وعشرون في بلد لم يعرف
سوى الحروب والحصار، عاشها بتفاصيلها وخطّت على ملامحه أخاديداً، وكأنّها خرائط
توضيحيّة لعمق ما حتّه التعب على وجهه، في كل محطّة زمنية من محطّاته.
فمن الحرب العراقيّة - الإيرانيّة إلى اجتياح العراق
للكويت، عاش هذا اللاجئ الفلسطيني في العراق معاناة فرضتها هاتان الحربين بهيئة
تنقلات وهجرات داخليّة، يضاف إلى ذلك الحصار الأمريكي على البلاد عام 1990 وما
جرّه من إفقار وتجويع، حتّى الغزو الأمريكي عام 2003 الذي شرّده إلى سوريا، ليطحنه
هناك ديدن مشابه لم يكن في الحسبان.
من تهجير إلى تهجير يقول أحمد لـ" بوابة اللاجئين
الفلسطينيين"، فمع الأحداث الطائفية التي شهدها العراق بعد العام 2003، هُجّر
من بغداد كمعظم فلسطينيي العراق، الذين تعرّضت لهم عصابات مذهبيّة اجتاحت البلاد،
وخصّتهم بممارساتها بوحشيّة استئنائيّة، وكان لأفراد أسرة أحمد منها نصيب، حيث
بترت ساق شقيقه في قصف تعرّض له مجمّع البلديات الفلسطيني في بغداد، واعتقل آخر
لفترة من الزمن قبل أن يفرج عنه، حسبما روى.
حال دفع بأحمد وعائلته للخروج من العراق، هرباً من جحيم
استثنائي حلّ على بلاد ولد فيها كلاجئ، ولم تُراعى فيها اعتباريته لدى أحد، وتشرّد
منها كالعديد من الفلسطينيين و من أبنائها، ليقصد سوريا، حيث يوجد في عاصمتها
تجمّع كبير للاجئين الفلسطينيين اسمه مخيّم اليرموك وفق ما عبّر، يقصده كل فلسطيني
لجأ إلى مدينة دمشق.
مخيم
اليرموك .. محطة ونكبة
في اليرموك، عاش أحمد وعائلته منذ العام 2003 حتّى
العام 2018، لم يتذوق فيها طعم الطمأنينة سوى القليل بين أبناء جلدته الذين عاش
بينهم، وكان يتلقّى من المفوضيّة الأممية السامية لشؤون اللاجئين، التي تلقفّت
فلسطينيي العراق منذ تهجيرهم، إعانة شهريّة، لم تدم طويلاً لأنّها قد قُطعت عنه
منذ اندلاع الأحداث السوريّة عام 2011 وفق ما قال لـ" بوابة اللاجئين".
ليفتح هذا التاريخ فصلاً جديداً في حياته، حيث أُجبر
كـ"فلسطيني عراقي"، على تذوّق ما ذاقه السوريون والفلسطينيون السوريون،
مما حلّ في سوريا، ولكنّ بإضافات زادت من مرارة القسوة، فلا مهرب له إلى أيّ مكان
آخر وفق ما أشار، حيث تخلّى عنه الجميع، وسدّت أمامه جميع الأبواب كما سدّ الحصار
جميع منافذ العيش على أهالي مخيّم اليرموك.
حُوصر أحمد في سوريا وتحديداً "جنوبي دمشق"،
ولم يجد له مفرّ من البلاد التي بدأ الجحيم يجتاح حياة أهلها، فتوقف معونات
المفوضيّة عنه، قد جرّ عليه "ويلات" معيشيّة عديدة، ولم تعترف به أيّة
جهة أممية، رغم وجود ملف خاص به لدى المفوضيّة وامتلاكه لأوراق حماية وإجرائه عدّة
مقابلات في مكتبها بمنطقة كفرسوسة بدمشق وفق ما قال، لكن كل ذلك كان بلا فاعلية.
ولربّما كان الأشد غضاضة عليه، نكران سفارات السلطة
الفلسطينية له، "تقدمت بطلب للسفارة الفلسطينية في دمشق لتجديد أوراقي
الثبوتية، ولم يرضوا" يقول أحمد بمرارة، وكل ذلك خلال محاولاته إيجاد سبيلاً
للخروج من جحيم بات وقعه يشتد يوماً بعد يوم في سوريا، حتّى دفعه للبقاء في المخيّم
الذي سدّت أبوابه على ساكنيه في حصار خانق، عايشه أحمد بكل تفاصيله ومراراته،
واحتمالات الموت المتعددة التي خيّمت على أبنائه ونالت من الكثير منهم.
سبع سنوات عاشها أحمد وعائلته في مخيّم اليرموك، لم تمر
عليهم خلالها، قوافل المساعدات التي كانت تجيء إلى المخيّم، لتوزع صناديق الإغاثة
في الفترة الأولى من الحصار، فأحمد غير معترف به من قبل وكالة "أونروا"
وهو حال فلسطينيي العراق الذين لم يندرجوا ضمن سجّلات الوكالة منذ تهجيرهم عن
فلسطين، كما لم تعامله أيّة جهة دولية أو إنسانيّة معاملة اللاجئ الفلسطيني السوري
وفق ما أكّد، رغم معايشته ظروفهم بكافة شقائها خلال فترة الحصار، إلّا أنّ وجوده
بين أبناء جلدته كان اليد الوحيدة التي تلقفته وأسرتُه وقدّمت له ما يبقيهم على
قيد الحياة.
هجرة
أخيرة إلى الشمال، ومستقبل مجهول
أيّار/ مايو 2018، كان تاريخاً مرّاً لتهجير جديد، إلى
مالم يكن في الحسبان، فبعد التسوية التي جرت في مناطق جنوب دمشق بين المعارضة
السوريّة المسلّحة من جهة، والنظام السوري من الجهة الثانية، والتي أفضت إلى تهجير
الآلاف من أبناء جنوب دمشق ومخيّم اليرموك إلى الشمال السوري قسريّاً، وجد أحمد
نفسه مضطرّاً لركوب القوافل باتجاه الشمال السوري، فلا مقومات لديه للبقاء في جنوب
دمشق، لا أوراق ثبوتيّة ولا عوامل معيشيّة يستند إليها، لينتهي به
"المطاف" في مخيّم دير بلّوط للمهجّرين في ريف مدينة عفرين شمالي سوريا.
يقضي أحمد أيّامه في المخيّم، كسواه من اللاجئين
الفلسطينيين السوريين والسوريين، يتشارك معهم قسوة العيش، في خيام لا تقي حرّ
الصيف ولا برد الشتاء، وفق ما يؤكد، بفارق استثنائيّ بسيط لكنّه قد يضاعف من وقع
القسوة عليه، بأنّه وأسرته ليس لديهم اعتباريّة قانونية ولا أوراق ثبوتيّة، قد
تفتح لهم باباً ما في المستقبل.
"لا عندي هوية، ولا أوراق ثبوتية، ولا حدا عم يعترف
عليّ" يقول أحمد، ويؤّكد أنّه ومنذ تهجيره إلى دير بلّوط، قد سعى حثيثاً لحل
أزمة أوراقه الثبوتيّة، عبر اتصاله بسفارة السلطة الفلسطينية في بغداد، ولم يتلق
منها سوى النكران، ما دفعه للاتصال بسفارة السلطة في تركيا، التي تقدّم إليها بطلب
للحصول على جواز سفر منذ 4 سنوات، لكن دون رد يذكر من قبلها.
عام ونصف العام في مخيّم دير بلّوط، عاشها أحمد مع
زوجته وشقيقه وزوجة شقيقه، بعد أن تذوّقوا كل ما مرّ على هذا المشرق العربي من
نكبات، قدرهم أن يستقّروا في خيمة "بالشتاء مثل الثلج، وفي الصيف لا شيء
يبرّد حرّنا" كما يصفها، واضعاً مصيره ضمن مصير المئات من الفلسطينيين الذين
يعيشون في المخيّم، لا أحد يلتفت لهم من المسؤولين الفلسطينيين، الذين تساءل أحمد:
"أين هم، أين منظمة التحرير، أين الجهات المسؤولة عن الفلسطينيين"، وليس
في الأفق أي بارقة تشير إلى غد أفضل، لدى لاجئ " فلسطيني عراقي" لربّما
تختصر حكايته ذروة ما يمكن لفلسطيني أن يتكبّد من نكبات جرتها عليه نكبته الأولى -
طرد أهله من فلسطين وإقامة الكيان "الإسرائيلي" على أرض أجداده.
المصدر : موقع بوابة اللاجئين الفلسطينيين
4/1/1441
3/9/2019