وعلى خلاف السنوات الأولى من عمر الاحتلال بدت بغداد في
الذكرى الخامسة عشرة شاحبة، ولا مجال للحديث مجدداً عن شيء اسمه مناسبة “يوم
التحرير”، الذي حاولت شخصيات عراقية، مثل أحمد الجلبي ومثال الآلوسي وعبدالعزيز
الحكيم ونوري المالكي وموفق الربيعي وجلال الطالباني وآخرين، تمريره، عقب الاحتلال
كمناسبة وطنية. فالنتائج التي انتهت لها قناعات العراقيين بغزو بلادهم لا تسمح لأي
دعوات من هذا القبيل، خصوصاً أن المناسبة تصادف موسم الانتخابات، والجميع
حذر فيما يقوله، عدا أنه هناك آلاف العراقيين يحيون هذه الأيام ذكرى مقتل ذويهم
جراء الغزو الأميركي للعراق في العام 2003.
العودة إلى الوراء
وتتزامن الذكرى الـ15 لاحتلال العراق هذا العام مع وجود
38 مدينة وقضاء مدمرة بفعل" حروب التحرر من تنظيم “داعش"”، وثلاث محافظات في
الشمال بالكاد تحافظ على ارتباطها بالعراق بعد أن قررت الانفصال عمن أسمته الرجل
المريض في سبتمبر/أيلول الماضي، يقابله استمرار تواجد عسكري لـ 14 دولة في العراق
تحت عناوين وأسماء مختلفة وأجندات ومصالح، أبرزها الولايات المتحدة، وتركيا، وإيران،
وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وأستراليا، وكندا، بعديد قوات تركته
الحكومة في بغداد للتوقعات، فهي نفسها لا تعلم عددهم الحقيقي ولا من يدخل أراضيها
أو يخرج منها، بسبب اعتبار الحكومة هذا الملف سياسياً وبعيدا عن الأمن. وهناك 115
ألف عنصر مليشيا، يشكلون 73 فصيلاً، منها 61 ترتبط مباشرة بمكتب المرشد الإيراني،
علي خامنئي، وتم الترخيص لهم أخيراً للعمل بالعراق، تحت ضغوط إيرانية واضحة، ومنحوا، ضمن قانون
نافذ، امتيازات ومرتبات ضباط ومنتسبي الجيش العراقي الذي ما زال يحافظ على المرتبة
الثانية في قائمة أقوى التشكيلات المسلحة بالعراق، إذ تحل مليشيات “الحشد الشعبي”
أولاً والبشمركة ثالثاً.
في موازاة ذلك، فإن العراق، ورغم مغادرته حقبة حزب
“البعث” منذ عقد ونصف، لا يزال يعاني من الحكومات التي جرى التوافق عليها طائفياً،
بعد ثلاثة انتخابات تشريعية شهدتها البلاد، حيث أزمة الهوية وضبابية الانتماء بين
محيط عربي طبيعي وتحالفات طائفية ضيقة.
وبعد الأمن، أصبحت هموم العراقيين في العام 2018 تتمحور
حول الخدمات الطبيعية التي كان يتمتع بها أجدادهم في القرن الماضي، كالماء الصالح
للشرب والكهرباء والمستشفيات. ويقول القيادي في التيار المدني العراقي، حسام
العيسى، إن “العراقيين يشتاقون، إلى حد البكاء، للقانون، واحترام آدميتهم من قبل
السلطة الحاكمة، وأن يتوقف عنصر الأمن والمليشيا عن اعتبار نفسه الآمر والناهي على
العراقيين، ويقتل أيضاً إذا رغب بذلك، من دون أي رادع”. ويضيف العيسى، في حديث مع
“العربي الجديد”، أنه “من العار علينا كسياسيين أن نسمع عراقيا يتمنى أن يحصل على
خدمات كان يحصل عليها أيام الحصار الاقتصادي على العراق في التسعينيات”.
أرقام صادمة
وتكشف سجلات غير معلنة لوزارة الصحة العراقية، اطلعت
عليها “العربي الجديد” قبل أيام، بأن حصيلة الضحايا العراقيين خلال الغزو ما زالت غير
مغلقة، فهناك نحو 2700 عراقي مجهولي المصير حتى اليوم، وهم فقدوا خلال المعارك
البرية والقصف الجوي، وهو رقم لا يكاد يذكر أمام الحصيلة الإجمالية لفاتورة الغزو
الأميركي للعراق، والتي تجاوزت، حتى الأول من مارس/آذار الماضي، نصف مليون قتيل
عراقي، وضعف هذا العدد من الجرحى، أكثر من ثلثهم أصيبوا بإعاقات دائمة. وتنسف السجلات ذاتها كذبة
طالما حاول الجيش الأميركي، خلال سني احتلاله للعراق، ترويجها، وهي صداقة المدن
الجنوبية له على عكس الشمالية والغربية. وتشير الأرقام إلى أنه خلال فترة
المواجهات البرية بين القوات العراقية والاحتلال الأميركي، بين 20 مارس 2003 و14
إبريل/نيسان 2003 قدمت البصرة والناصرية والسماوة بعد بغداد والفلوجة والموصل أعلى
عدد من الضحايا المدنيين ومن أفراد الجيش العراقي السابق، والتي انتهت بانهيار آخر
أسوار بغداد الدفاعية، وهي قوات حمورابي والمدينة المنورة وخالد بن الوليد والإمام
علي التابعة للحرس الجمهوري، فضلاً عن الفرقتين الأولى المدرعة ولواء من القوات
الخاصة، بعد أيام من القصف الجوي والصاروخي العنيف، استخدمت فيه الولايات المتحدة
أسلحة محرمة، وفقاً لتقارير دولية كشف عنها فيما بعد، خصوصاً في معارك المطار
والدورة وبادية السماوة قرب الحدود العراقية السعودية.
ومن الأرقام التي لا يمكن وصفها إلا بكونها تقديرية
نقلاً عن مسؤولين عراقيين وموظفين في وزارات الداخلية والصحة والدفاع والتخطيط،
بسبب تخلف قاعدة البيانات العراقية وتفاوتها من وزارة إلى أخرى واستمرارها بالعمل
بنظام الأرشفة الورقي لا الإلكتروني، فإن هناك أيضاً نحو 60 ألف مفقود لا يعلم
عنهم شيء حتى الآن (حسب تقرير لوزارة البلديات العراقية فإن هناك نحو 23 ألف قبر تم دفن أشخاص مجهولين فيها،
غالبيتهم في النجف وبغداد والموصل والفلوجة)، عدا عن عشرات الآلاف من المعتقلين
والمختفين قسرياً. ووفقاً لتقديرات أممية، فإن هناك ثمانية ملايين عراقي، بينهم
خمسة ملايين فروا من العراق، منذ الغزو الأميركي، وهم موزعون على 64 دولة، تصدر
عربياً الأردن ولبنان ومصر وسورية احتضانهم، وغير الدول العربية تركيا ودول
الاتحاد الأوروبي. وداخلياً هناك نحو 3 ملايين شخص ما زالوا في مخيمات النزوح
والمدن البديلة التي فروا إليها بعد احتلال “داعش” لأجزاء من البلد، اعتبرت
كالمنافي الاختيارية لهم داخل العراق.
وجيش الأيتام والأرامل في العراق يتصاعد هو الآخر. ورغم
مماطلة المكتب الإعلامي في وزارة الشؤون الاجتماعية بالإفصاح عن العدد الجديد لهذه
الشريحة، بذريعة عدم وجود مسح لهم في المدن المحررة، تشير مصادر من داخل الوزارة،
لـ”العربي الجديد”، إلى أن العدد المعلن، العام الماضي هو 5.6 ملايين يتيم ومليونا
أرملة. كما لا تزال معدلات الأمية في البلاد تتصاعد، إذ بلغت 22 في المائة، بعد أن
كانت حسب وزارة التخطيط في العام 2014 بلغت 18 في المائة، غالبيتهم من الإناث.
وبقي معدل البطالة عند عتبة 32 في المائة والفقر بحدود 35 في المائة، فيما بلغت
الجريمة معدلات قياسية، إذ بلغت 40 جريمة في اليوم الواحد في عموم مدن العراق، وهي
الأعلى على مستوى الوطن العربي. النقطة الواحدة المضيئة هي انخفاض وتيرة العمليات
الإرهابية هذا العام بنحو 50 في المائة.
آراء السياسيين
ويقول القيادي في التحالف الحاكم في العراق والنائب،
صادق المحنا، “بعد التغيير والخلاص من النظام السابق، كان العراقيون ينظرون
للتغيير بأمل، وأن يندفع العراق بقوة إلى الأمام، ولكن للأسف فإن الطبقة السياسية،
التي استولت على العراق، اعتبرت البلد دكاناً أو مصرفاً، تتسابق فيما بينها على من
يسرق أكثر، فتراجعت البلاد على كل المستويات وسببت خيبة أمل لكل العراقيين”. ويضيف
“كان العراقي ينظر للتغيير كانتقال إيجابي، لكن اليوم بسبب الطبقة السياسية،
وبصراحة أقولها، هناك إحباط كبير في الشارع، واليوم نأمل من هذه الانتخابات خيرا،
وأن تستمر عملية التغيير التي بدأتها الحكومة الحالية. ونأمل أن تؤدي الانتخابات
الجديدة إلى تغيير حقيقي، وأن يتوقف العراق عن التراجع”. ويعتبر أن “العراق الآن
أصبح على السكة، ولكن لا قدر الله إذا غيب صوت العراقيين في هذه الانتخابات،
فسيكون هناك كارثة حقيقية”.
من جهته، يرى النائب عن التحالف الكردستاني، ماجد شنكالي،
في حديث مع “العربي الجديد” أن “العراق، وعلى الرغم من مرور 15 سنة من التخلص من
النظام البائد، لم يتغير بل تراجع إلى الوراء كثيراً”. ويضيف “لا يمكن أن نقارن
النظام الدكتاتوري بالنظام السياسي الحالي، لكن على مستوى المؤسسات كانت سابقاً
أفضل بكثير، إذ برز الفساد والمحسوبية وتردى الأمن وانتشرت الطائفية والعنصرية والمذهبية.
أعتقد أن السنوات الـ 15 السابقة كانت من أسوأ السنوات على العراقيين”. من جهته،
يقول عضو تحالف القوى العراقية، حامد المطلك، “للأمانة وبصراحة، فقد تراجعت كل
جوانب الحياة في العراق، من اقتصاد وتعليم وأمن وزراعة وصناعة وتجارة وسياسة، ولا
يمكن نكران ذلك”. ويضيف، لـ”العربي الجديد”، أن “العراقي يعيش بؤساً مدقعاً، إذ إن
الوضع الأمني متردٍ والسيادة مسلوبة والخروقات من الجميع، والثروة منهوبة، ولا
يوجد أي أمل في ظل من جاء مع الاحتلال ويحكم العراق اليوم، وليس لديه هم إلا الكسب
الشخصي ومصالح ولاءاته الخارجية”. ويتابع “العراق ليس على ما يرام بعد 15 سنة من
الاحتلال”. وتقول فرصة عباس الوائلي (48 سنة)، وهي معلمة لغة عربية في مدرسة وسط
بغداد، “لم نحصل على شيء. 15 سنة لا شيء، سوى الموت والدمار والخراب. أعمارنا
انقرضت، ولا أمل. لا ماء ولا كهرباء ولا طرق نظيفة ولا تعليم ولا علاج ولا أمن وبلا جيل مثقف“. وتضيف “العراق محظوظ للغاية
فينا، نحن نحبه للغاية، لذا أفترض أن كل من تآمر عليه وقتل أبناءه وسرق خيراته ليس
عراقياً، وإن ادعى ذلك”.
المصدر : العربي الجديد
23/7/1439
9/4/2018