أكذوبة وفرية روج لها اليهود لتشويه صورة الفلسطينيين أمام عمقهم وامتدادهم العربي والإسلامي، فصدقها للأسف الكثير منهم حتى أصبحت من المسلمات والله المستعان، بل تكاد تكون هذه الفرية من أكثر الأكذوبات رواجا لا سيما في الصحف المرتزقة والأقلام المأجورة وبالتالي انعكست على الكثير من المواقف المفترضة إزاء تلك القضية.
وتكاد تكون هذه الفرية هي خلاصة تاريخ فلسطين الحديث لدى الكثير من المسلمين والعرب للأسف الشديد، وخلاصتها " أنتم بعتم أرضكم " وباللهجة العراقية " لو بيكم خير جان ما بعتو أراضيكم " وما يحزن ويؤسف وتدمى له القلوب أنه بعد احتلال العراق وسقوط بغداد بتاريخ 9/4/2003 بيومين صرح بذلك الخطأ الفادح عدد من خطباء مساجد بغداد!!
والعجيب في ذلك أن بعض هؤلاء من المشايخ والرموز السنية المعروفة، إلا أنهم في أول جمعة بعد الاحتلال والتي وافقت 11/4/2003 قالوا ( لا تبيعوا أراضيكم كما باع الفلسطينيون أرضهم !!) وكان آنذاك حضور لبعض الفلسطينيين من مجمع البلديات وغيره، فما كان منهم إلا السخط والنقمة على أولئك الخطباء وتصحيح تلك الشائعة والأكذوبة التي بلغت الآفاق.
والحق يقال أن أولئك الخطباء أيضا أصابتهم الدهشة من ردة فعل الفلسطينيين ضدهم لأنهم يظنون أن هذا أمر ثابت وبدهي، وقاموا بالاعتذار عما بدر منهم، وبعضهم أعلن ذلك في الخطبة اللاحقة، وفي الحقيقة هذه المعاناة كنا نحسها كثيرا منذ عقود في العراق، فبمجرد اختلافك مع عراقي في الغالب بأي موضوع يقول لك مباشرة باللهجة العراقية " لو بيكم خير جان ما بعتو أراضيكم " سواء عن قصد أو يردد ما يسمعه من غير تثبت أو بيان.
وما جعلني أثير هذا الموضوع وأكتب فيه بيانا عاما من جهة وبما يخصنا كفلسطينيين من العراق من جهة أخرى، أنني بينما كنت في طريقي من أنطاكيا إلى حلب برا في سيارة للأجرة تركية، ويجلس قرب السائق رجل تركي كبير بالسن ويبدو عليه مظهر الأبهة والأناقة ويتكلم العربية، والغريب في الأمر بمجرد معرفته أنني فلسطيني قال: لكن أنتم بعتم أرضكم!! امتعظت مباشرة وقلت له: هذا غير صحيح، فهذه دسيسة وفرية يهودية وأنتم وغيركم للأسف صدقتموها، ولم يبع أجدادنا ولا آبائنا الأرض بل أهديت فلسطين من قبل بريطانيا لليهود مع الضعف العربي وانهزام الجيوش العربية، والمواقف الهزيلة في حينها.
أضف إلى ذلك أن نشر هذه الشائعات والأكاذيب بسبب انهزام الجيوش العربية في حروبها مع العصابات اليهودية، فأرادت تلك الأنظمة التنصل من مسؤولياتها تجاه قضيتنا فراحوا يروجوا تلك الأكذوبات.
اليمن يعتبر من أكثر الشعوب تعاطفا مع القضية الفلسطينية رغم البعد الجغرافي وابتعادهم الثقافي عن الكثير من التفاصيل المتعلقة بفلسطين باستثناء بعض الأشياء الشائعة، إلا أننا فوجئنا من البعض تحديدا يرددون هذه الأكذبة أيضا والله المستعان.
في الحقيقة إثارة هذه الشائعة ونشرها بين أوساط إسلامية وعربية واسعة له مردود كبير على قضيتنا الفلسطينية، والغرض منها إضعاف العمق العربي والإسلامي لقضيتنا المركزية، وعزلنا دينيا وعربيا، وانعدام الحس والشعور والتعاطف الفعلي معنا مع مرور الوقت، لأنهم – اليهود – أرادوا من ذلك إيصال الجميع لقناعة وهي " طالما أنكم بعتم أرضكم لليهود فلم تطالبون بها مرة أخرى ولم تطالبون بحق العودة ولم تطالبون بالأقصى" ؟!! وكان الغرض منها إيصال الفرد المسلم والعربي خصوصا ومن تعاطف مع الفلسطينيين عموما إلى أن هؤلاء اللاجئين قد باعوا أرضهم التي يتباكوا عليها وبالتالي فلا تقفوا بجانبهم لأنهم لا يستحقون ذلك !!
فقد كشف زيف هذه الأكذوبة الأخ الفاضل عيسى القدومي في كتابه "فلسطين وأكذوبة بيع الأرض "، وبين حقيقتها أتم بيان وسد كل ما يمكن أن يتوهمه الذهن والعقل من شبه وثغرات؛ بالأدلة القطعية والتاريخية وشهادات الأعداء قبل الأصدقاء، وبالأرقام والنسب حيث أجاد وأفاد في هذا الباب، فليرجع إليه من أراد الاستزادة فقد كفانا تلك المؤونة.
ولابد والحال هذه من المرور حول بعض الحقائق لاسيما فيما يخصنا نحن "فلسطينيو العراق" والذ ترجع أصول معظمنا لقرى مثلث الكرمل، إذ بعد سقوط مدينة حيفا بتاريخ 23/4/1948 واستيلاء العصابات اليهودية عليها، بدأت تسقط قرى قضاء حيفا تباعا باستثناء قرى مثلث الكرمل الصغير ( إجزم وجبع وعين غزال ) والتي صمدت وثبتت وقاومت أشد ما يكون إلى أن نفذ السلاح وهلك الناس ودمرت القرى، حيث سقطت القرى الثلاث إجزم وجبع وعين غزال بتاريخ 24/7/1948، وجاء في محطة الإذاعة الإسرائيلية ( لقد أسرنا الحمامة البيضاء – إجزم – وكسرنا جناحيها – جبع وعين غزال - ).
يقول عبد الله التل في كتابه ( كارثة فلسطين ص300 ) : ( وقد مهد اليهود لاعتدائهم على هذه القرى بأن أخذوا يذيعون أنها تقوم بأعمال تخريبية في إسرائيل وتهاجم طرق مواصلاتهم. وفي 21/7/1948 بدأت الطائرات اليهودية تقصف هذه القرى الآمنة التي اطمأنت إلى الهدنة. وقد استمر قصف الطائرات اليهودية لها عدة أيام زحف بعدها الجيش اليهودي فاحتل هذه القرى بعد أن انسحب منها أغلب أهلها وأسر الباقون وقتل منهم ما يزيد على مئة وأزالوا جبع وعين غزال من الوجود. وقد ادعى اليهود أنهم انما يقومون بأعمال بوليسية لحماية دولتهم، ولم تنفع شكوى العرب ، ولا تحقيقات هيئة الرقابة وتقاريرهم.
وقد شهد ببسالة وشجاعة وصمود وجهاد تلك القرى اليهود - والحق ما شهدت به الأعداء – وإليكم الرواية اليهودية ( لقد تضاءلت سيطرة العرب شيئا فشيئا، لكن بقي هناك في الكرمل عدد من القرى العربية الجريئة والعنيدة. وهذه القرى لم تصمد فحسب، وانما أيضا واصلت منع حركة مواصلاتنا على الطريق الساحلي. وخلال الهدنة الأولى وبعدها، اقام سكانها حواجز على عرض الطريق وحفروا فيه حفرا لاغلاقه تماما. وأخذ عدد هذه القرى يتناقص الى ان اصبح في النهاية ثلاث قرى استحقت، على غرار مدن " المثلث الكبير " – طولكرم ونابلس وجنين – لقب " المثلث الصغير ". وهذه القرى هي: عين غزال وجبع، القريبتان من شاطئ البحر واللتان شكلتا قاعدة المثلث، وإجزم – الواقعة في سهول الكرمل – التي شكلت رأسه " اليوم تدعى هذه القرى: عين ايالا، وغفيع هكرمل، وكيريم مهرال" ).( كتاب حرب فلسطين 1947-1948 الرواية الإسرائيلية الرسمية، ترجمه عن العبرية أحمد خليفة ص 582 ).
فهذا ما يخص قرانا التي انحدر أجدادنا وآبائنا منها وقس على ذلك بقية القرى، فشعب اختار المقاومة والدفاع عن أرضه ضد أعتى هجمة ومحتل، وملايين يعيشون البؤس في مخيمات اللجوء، وآخرين لا زالوا يحتفظون بمفاتيح وآثار ممتلكاتهم، وتمسك وتشبث بحق العودة، ودوام الذكر لتلك الأرض المقدسة الحبيبة المباركة، وغرس محبتها في قلوبنا وقلوب أبنائنا؛ لا يمكن أن يتنازلوا عن شبر من أرضهم فضلا عن بيعها!!
تقول روز ماري- باحثة وصحفية بريطانية- في كتابها ( الفلاحون الفلسطينيون من الاقتلاع إلى الثورة ) : ( لقد آذى التشهير بالفلسطينيين أكثر مما آذاهم الفقر، وأكثر الاتهامات إيلاما، كان الاتهام بأنهم باعوا أرضهم، أو أنهم هربوا بجب، وقد أدى الافتقار إلى تأريخ عربي صحيح لعملية الاقتلاع بالجمهور العربي إلى البقاء على جهله بما حدث).
فنحن للأسف أمة لا نقرأ وإذا قرأنا لا نفهم وإذا فهمنا لا نطبق إلا من رحم الله وقليل ما هم!! فاليهود أعداء ولا عتب عليهم في ذلك، فما بالك أنت أيها المسلم أيها العربي تشيع هذه الفرية، بل الحق الذي لا شك فيه وقد أثبته الأعداء قبل الأصدقاء وبالأرقام والاحصائيات أن الخونة وبعض الاقطاعيين والمستثمرين لم تتجاوز نسبة بيعهم كحد أعلى 1% كما تفيد المعلومات التاريخية الدقيقة، طيب أين نذهب بـ 77% من أرضنا التي احتلت عام 1948 ، والبقية التي احتلت عام 1967 ؟!!
اليهود عُرفوا بالكذب وأنهم قوم بهت فرَوجوا تلك الأكذوبة لصرف الناس عن مجازرهم وما ارتكبوا من جرائم بحق الفلسطينيين، وأشغلوا العالم لاسيما المسلمين بافتراءات لا أصل لها لابعادهم عن قضيتهم المركزية، ومنطق اليهود هو ( إذا أردت أن تقتل عدوا لا تطلق عليه رصاصة بل أكذولة )، حتى قيل بحقنا زورا وظلما وبهتانا: وإن الفلسطينيين لم يدافعوا عن أرضهم بل باعوها وسلموها تسليما لليهود !!
وحالات البيع التي حصلت بسبب تراكم الضرائب والديون المفروضة في زمن الدولة العثمانية حيث استغل ذلك بعض الإقطاعيون والأثرياء من غير الفلسطينيين، وعلى سبيل المثال اشترى الثري اللبناني ( سرسق ) ستين قرية في سهل مرج بني عامر بفلسطين عام 1869، ومن تلك العوائل التي اشترت أيضا ثم وجدت فرصة لمن يدفع لها أكثر باعوها لليهود كعائلات ( القباني والتويني والجزائري وسلام والطيان ) ومن العوائل الفلسطينية أيضا عائة ( كسار وروك وخوري وحنا ) وغيرهم. بتصرف من كتاب ( فلسطين وأكذوبة بيع الأرض للأخ عيسى القدومي ).
قد تكون هنالك حالات فردية وهذا لا يخلو في كل زمان ومكان من خيانة وعمالة ونفوس ضعيفة تبيع دينها بعرض من الدنيا قليل أو كثير لكن هل يصح التعميم، والإنصاف أن الأحكام لا تطلق على نوادر الأفعال والمواقف بل يخرج الحكم مخرج العموم والغالب من الواقع لا العكس كما حصل مع هذه القضية والله المستعان.
ويرد الشيخ محمد أمين الحسيني مفتي القدس ورئيس الهيئة العربية العليا على هذه الفرية قائلا( أهل فلسطين كغيرهم من الشعوب منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، ولا يبعد أن يكون بينهم أفراد قصروا أو فرطوا أو اقترفوا الخيانة، لكن وجود أفراد قلائل من أمثال هؤلاء بين شعب كريم مجاهد كالشعب الفلسطيني لا يدمغ هذا الشعب ، ولا ينتقص من كرامته، ولا يمحو صفحة جهاده العظيم) .( كتاب حقائق عن قضية فلسطين الحاج أمين الحسيني ص 23 ).
ففي عام 1948 وتحت القوة المفرطة التي استخدمها الكيان اليهودي وهزيمة الجيوش العربية تم تهجير قرابة 800 ألف فلسطيني من اصل 925 الف كانوا يسكنون في تلك المنطقة والاستيلاء على 77% من الأراضي.
ودمر الصهايبة 478 قرية من أصل 585 قرية كانت قائمة في المنطقة المحتلة وارتكبوا 34 مجزرة حسب ما تم توثيقه وإلا فالمجازر أكثر من هذا العدد وما مجزرة دير ياسين إلا أنموذجا .
وتصريحات قادة اليهود معروفة بأحقيتهم باستملاك الأرض وازدراء من عداهم من البشر إذ يقول " ماير أمشال روتشيلد" ( تذكروا يا أبنائي بأن الأرض كلها ستكون لنا نحن اليهود أما غيرنا وهم حثالة الحيوانات فلن يملكوا شيئا قط )، وكذلك صرح بن غوريون أمام لجنة الأمم المتحدة لاستقصاء المعلومات عام 1947 ( إن لنا الحق في فلسطين كلها ) .
وبعد احتلال عام 1967 صرح " موشي دايان " قائلا ( إذا كنا نمتلك الكتاب المقدس وإذا كنا نعتبر أنفسنا شعب الكتاب المقدس ، فإن علينا بالمثل أن نمتلك أرض الكتاب المقدس ).
ناهيك عن تصريحات حاخاماتهم التي تنبع عن معتقداتهم بأن بضرورة تحرير أرضهم " إسرائيل " من الغاصبين " الفلسطينيين " حيث صرح الحاخام " تسفي يهودا كوك " بعد نكسة عام 1967 قائلا ( كل هذه الأراضي هي لنا قطعا تخصنا جميعا، لا يمكن أن تنقل للآخرين حتى لو قسم منها ... من الواضح والأكيد أنه لا " مناطق عربية " أو " أراضي عربية " هنا، إنما أراضي إسرائيلية فقط، الإرث الدائم لأسلافنا، وإليها جاء الآخرون " العرب " وعليها بنو من دون إذن منا وفي غيابنا ).
إن تلك التصريحات والحشد الإعلامي وتثقيف قادة اليهود أتباعهم بهذا الاتجاه، جعلهم يسلكوا كل السبل الهمجية والبربرية للاستيلاء على الأرض، فهم يسيرون وفق استراتيجية وخطط مبرمجة والواقع أكبر شاهد على ذلك، فلا ينتظرون من فلسطيني أن يبيع جزء من أرضه حتى يقام مشروعهم مع حرصهم على ذلك لسرعة إقامة دولتهم اليهودية على أرضنا فلسطين.
ولم نسمع الكيان اليهودي في محافلهم وملتقياتهم قالوا أننا أخرجنا الفلسطينيين لأنهم باعوا أرضهم بل هم يدعون أحقيقة بهذه الأرض منذ ألفي عام، ولم نسمع كذلك أي تصريح لمسؤول يهودي يقول هذه وثائق شراء من قبلنا للأراضي الفلسطينية حتى يثبتوا أحقيتهم بتلك الأرض بل لم يلمحوا إلى ذلك أصلا فتأمل.
ولما كانت أرض بيت المقدس وقفا لجميع المسلمين عندما أوقفها عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند تسلمه مفاتيح بيت المقدس، فلا يجوز بيع أو التفريط بشبر منها، وفتاوى علماء فلسطين والمسلمين في ذلك كثيرة جدا تبين حرمة بيع أي جزء من أرض فلسطين وتحريم السمسرة لبيع الأرض، بل بيع أي جزء منها هو بيع للمسجد الأقصى، لأنه سبيل لذلك.
فيا أيها المسلمون والعرب جميعا لا تكونوا عونا لليهود علينا بترديد ونشر هذه الأكاذيب والافتراءات، وعليكم أن تعوا حقيقة المؤامرة وتفهموا تاريخكم بشكل صحيح، وربنا تبارك وتعالى يقول ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) فعلى جميع الكتاب والإعلاميين والعلماء والخطباء والدعاة أن يتثبتوا قبل ترويج هذه الترهات وتضليل الناس بجهل وعدم إثبات أي دليل أو برهان مما يشاع.
ولا زلنا جيلا بعد جيل نثقف أبناءنا وأجيالنا بحقنا بتلك الأرض المغتصبة، الحق الشرعي والعرفي والقانوني والمنطقي والعقلي، فلا يضيع بالأكاذيب والشائعات وتزوير الحقائق، بل هو باق ما بقي فينا قلب ينبض وعين تطرف، وسوف لن تنثني عزيمتنا بتلك الترهات، ونزداد تشبثا وتمسكا بعودنا لأرضنا المحتلة المغتصبة طال الزمان أو قصر، لأن دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، ونختم بقول نبينا وقدوتنا محمد عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال ) صحيح الجامع برقم 13250، والدجال يقتل بفلسطين فهذه بشارة لنا والحمد لله، وكما قيل: ما ضاع حق وراءه مطالب.
أيمن الشعبان
باحث متخصص بشأن الفلسطينيين في العراق
3/3/2010
المصدر: مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية