لا...لا يا ابتي لن انساك – مريم العلي

بواسطة قراءة 2299
لا...لا يا ابتي لن انساك – مريم العلي
لا...لا يا ابتي لن انساك – مريم العلي

يصعب أن اجد بداية لموضوعي .. ربما لأن البداية يعني بكاء صامتا و البكاء صمتا أصعب من البكاء سرا ً .. بكثير ..

اجتمعت بصديقتي وزميلتي  وهي تعمل في اصلاح الحدائق مهندسة زراعية  فأخبرتني عن عزمها على مغادرة العراق الى استراليا بعد ان انتظرت  التأشيرة سنة كاملة.

أحزنني بعض الشيء وصولها الى هذا القرار ولكن هل هي مشكلة هذا الفتاة فقط أم هي أزمة وطن واختناق ثقافة بعد ان تحول الوطن الى طائرة مخطوفة والفلسطيني الى رهينة والمستقبل الى نفق مسدود؟ .

نعم انها  زميلة العمر في الدراسة وقد تقدمت بطلب الى السفارة الاسترالية في دمشق لغرض الهجرة وما ان سمعت بقبولها بالهجرة الى استراليا بالنقاط كمهندسة زراعية بعد جهد  حتى بدأت تلملم ما لها في العراق ، فاخذت تتفقد اركان بيتها وحديقتها وهي تتلمس الجدران وتتحدث معي بأنفاس محبوسة مختنقة والعيون تغرغر وهي تقول لي: سافقد بيتي  ولن اراه  تفتح نوافذ الشباك وتنظر من الشباك وتقول وداعا لما ارى وطلبت مني ان اصطحبها في اسواق بغداد لا حبا بالتبضع فهي اكملت كل شيء ولم يبقى اليها سوى سفرها فقالت اريد ان اتملى من شوارع واسواق بغداد قبل فراقها .

ونحن في الاسواق وفجاة صرخت من اعماق قلبها حتى جفلتني فقلت لها ما بكي؟! قالت  ودعت كل شيء الا شيئا واحدا غالي وعزيز علي ، فما هو؟ انه ابي فمنذ سنة  لم ازره لانني كنت في سورية فهيا  بنا الى مقبرة الغزالي وما ان وصلنا فهي تتحدث معي عن والدها وانا اعرف كل شيء عنه ولكني اكتشفت انها تحدث نفسها كانت وحيدة لابيها بعد ان توفت والدتها وهي في سن الثامنة من العمر بحادثة سيارة وتربت عند والدها الذي عوضها حنين الام بكل ما تعنيه الكلمة ورفض الزواج معاهدا نفسه امام الله حتى تكمل لمى تحصيلها الدراسي وتتزوج وفعلا اكملت لمى البكلوريوس وتقدمت الى رسالة الماجستر وفي السنة الثانية من الرسالة تعرض ابيها الى مرض عضال وقفت بجوار ابيها كرجل شامخ بوجه الصعاب لما لاقته من مآسي اثناء علاج والدها وابت

الزواج لاجل والدها رغم كثرة المتقدمين لها الا ان الله قد اختار اباها الى فراق لا رجعة له مع الدنيا .

تقول لمى وهي امام القبر مت يا أبي وتركتني أكابد هموم الزمان.. مت يا أبي وأنا قربك وحيدةً لا معين لي إلا الله .

قبل الآذان ...الأحزان تتوالى علي كأنها الغمام ...مت يا أبي وتركتني أمام ظروف الدهر وصروفه ..أمام المحن واللحان أحببتك أبي بعد أن غادرتني أمي التي تركت جرح غائر في كبدي في فؤادي في وجداني مات أبي مات ابي لك الله ولنا الله سيجمعنا في جنة الخلد – إن شاء الله – لنعيش الى الأبد لنعيش في أمان هكذا كانت تتحدث لمى امام قبر ابيها واخذت حفنة من التراب ووضعتها في زجاجة فسألتها ما هذا قالت سآخذه معي ليبقى ابي معي حيثما ذهبت وفعلا غادرت لمى العراق بعد ان ضاق بها الفراق .

طريق باتجاه واحد، وقرار مصيري لا عودة عنه هكذا قالت لي زميلة الدراسة لمى  ومن نسيج الوجدان و على جدران القلب تتوالى ومضات الشوق .. فتلتهب نيران الحنين المتأجج في حنايا الصدور .. إلى الأرض و الشجر ... إلى الناس و الحجر ..  وكل زهرة و كل ورقة ياسمين تفصح لك عن عن حب كبير و قصص غريبة في الأرض و تخط في سجل الذكريات ان لا أكبر من حب الوطن و لا احلى منه وعندها ايقنت ان   قرار الهجرة  من اصعب وأخطر القرارات في حياة الانسان ولعله يكون طريقا باتجاهواحد، ومشكلة الغرباء انهم يبقون غرباء لفترة طويلة وقد تدوم هذه الغربة مدىالحياة.

وعلى من يتخذ قرار الهجرة ان يتذكر ثلاثة أمور: انه قرار لا يتعلق به وحده بل ذريته من بعده. ثانياً انه قد يكون هجرة بغير عودة. وثالثا ليتذكر قول الفيلسوف ديكارت ان من يكثر التنقل يصبح غريبا في بلده ، لكي مني كل السلام يا لمى اعز صديقة الي وان لفراقها وحشة الا اني اعذرها لما عانته  وربما لكثرة النكبات التي تعرضت لها في حياتها و التي أخذت منها كل شيء .

أخبرتكم كيف يغادر الياسمين و بحزن يختلط بفرحة  فمن الممكن أن يفارق الإنسان إنساناً بمحض إرادته وعلى أمل اللقاء يوماً ولكن إذا كان ذلك الفراق يحدث فجأة وبدون سابق إنذار وتراجع وعودة، فهنا فقط تصبح الحياة لا طامة كبرى فقط ولكنها تصبح ظلماً فادحاً يعجز الإنسان المظلوم عن أن ينوء كلكلة الضعيف عن حمله.

فساعتها لن يجدي فتيلا لا البكاء ولا النواح .


16-9-2009

مريم العلي

 

"حقوق النشر محفوظة لموقع "فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"

المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو إدارته