ففي عام 1967 وفي أيام النكسة لجأ الآلاف من أهلنا في الجولان المحتل إلى مخيم اليرموك أذكر تماما وأنا ابن عشر سنين كيف استقبل الفلسطينيون إخوانهم النازحين، أذكر جيدا مدارس الأونروا التي فتحت أبوابها : صرفند ، النقب ، الفالوجة ، المالكية، المنصورة .... إذ غدت مقرا مؤقتا لهم، كما أذكر النادي العربي في شارع فلسطين الذي أصبح مركزا لتوزيع المواد الغذائية لم أنس شباب اليرموك وهم ينقلون المواد الغذائية من الشاحنات التي تدخل النادي ليفرغوها في ساحتها؛ ريثما يتم توزيعها على العائلات حسب الحاجة، أذكر تماما علب السردين والطحين والزيت والسمنة وكذا الحليب المجفف ، وكذا البيض المجفف ذا اللون الأصفر القادم من بلغاريا الذي عرفناه لأول مرة وكنا نتعجب من ذلك!!
ولم
أنس الحاج المجاهد المرحوم حسين حمادة أبو عمر رفيق المجاهد عز الدين القسام بصحبة
زوجته إذ هب يقرع بيوت المخيم ليأخذ منها ما زاد عن حاجات أهلها من فرشات ووسائد
ولحف وملابس وطعام، فكنا نحن الأطفال نسير خلفه ونحمل ما جاد به الناس ونرسلها
لمسجد الرجولة ريثما يتم توزيعها للمحتاجين من أهل الجولان يومها زادت معرفتنا بالجولان
والقنيطرة إذ فرضت علينا ثقافة جديدة فصرنا نعرف جباتا الزيت والخشب، وواسط،
وسعسع، وقلعة جندل، وخان ارنبة والخشنية والعال وسكوفيا، وبير عجم والشيخ جودت
سعيد والشراكس والتركمان، وعرفنا جيرانا أصبحوا فيما بعد أشقاء لنا استوطنوا
بالقرب منا فصرنا نعرف نحن باللاجئين وهم بالنازحين ومع مرور الزمن أصبحنا (ناجئين
)لوحدة الحال واللغة المشتركة بيننا وأصبح بيننا صهر
ونسب ، فالحال واحدة والمصيبة تجمعنا وأمل العودة حلمنا، كما غدا الشيخ ابو أحمد
هزيمة خطيب وإمام جامع البشير أكبر جوامع المخيم بل المنطقة كلها، يعظ الناس
ويعلمهم القرآن ويحل مشكلاتهم ويشاركهم في أفراحهم وأتراحهم ، لا فرق عنده بين
نازح ولاجئ ولا بين سوري وفلسطيني . ولم تكتف الحكومة السورية بتركهم هملا بل أنشأت
لهم مدارس ومنشئات تتبع لمحافظة القنيطرة منها عدد محدود في مخيم اليرموك أشهرها
مدرسة شاكر قاسم طه بالقرب من جامع الوسيم، إلا أن بعضهم درس معنا على مقاعد مدارس
الأنروا وترافقنا كزملاء بعدها حتى التخرج في الجامعة.
وخلال
حرب أيلول عام 1970 لجأ إلى المخيم عشرات العائلات الفلسطينية قادمة من الأردن
هربا من أتون المعارك التي كانت دائرة هناك ونزل أكثرهم ضيوفا عند أقاربهم لقوا كل
حفاوة وتكريم، ولما انتهت المعارك عاد أكثرهم من حيث قدموا وبقي من بقي منهم حيث
استقر في المخيم إلى يومنا هذا.
وكذا
خلال الحروب الأهلية اللبنانية منذ عام 1975 وخلال تعرض المخيمات الفلسطينية هناك
للتضيق والحصار والإبادة كان مخيم اليرموك مأوى لكثير من العائلات الفلسطينية
الفارة من لهيب المعارك فبعضهم قدم من مخيم تل الزعتر والبعض من صبرا وشاتيلا
والجليل ونهر البارد وغيرها، والبعض هاجر من لبنان لسوء الحالة الاجتماعية
وللتمييز التي ما زال يتعرض لها الفلسطيني هناك حيث لا ترقى للحقوق الآدمية.
أما
الهجرة الكبيرة الثانية الني شهدها مخيم اليرموك فهي قدوم عدد كبير من الإخوة
العراقيين فرارا من الحروب هناك فإن قدر عدد اللاجئين العراقيين الذين قدموا إلى
سورية بمليونين فلا شك أن نصيب المخيم كان ما بين خمسين ألفا إلى سبعين كانت
تتراوح بالزيادة والنقصان بحسب الأوضاع الأمنية والسياسية في العراق إلا أن
العراقيين لم يسكنوا في المدارس بل استأجروا الشقق المفروشة وبعضهم تملك العقارات
وبسبب ذلك نشطت حركة الإيجار والاستئجار كما نشطت حركة بيع المفروشات وبناء
الملاحق وزادت معرفة الناس بالدولار وسعر الصرف وغالى بعض الملاك في رفع الأسعار
بسبب وفرة المال مع بعض اللاجئين العراقيين مما أثر ذلك سلبا على أهل المخيم من
الفلسطينيين والسوريين الذين يسكنون بالإيجار كما قامت طبقة من الإخوة العراقيين بممارسة
الأعمال التجارية ومنها الأعمال العقارية من شراء البيوت وفرشها وإيجارها وأصبحت
لهم أماكن خاصة كثر فيها نزلاؤهم كالمنطقة القريبة من جامع الوسيم حيث الشقق
السكنية والمطاعم وقد شهد المخيم في تلك الفترة انتشار عدد من العادات العراقية
كانتشار المقاهي والأفران الصغيرة التي تنتج خبزا لم يك معروفا بالمخيم من قبل .
وأما
الهجرة الثالثة فكانت في صيف 2006 أبان حرب تموز يومها استقبل المخيم الآلاف من
الإخوة اللبنانيين في مدارس الأونروا منهم بعض اللبنانيين الفلسطينيين قدموا من
مخيمات الجنوب ، كما تم استضافة أعداد منهم في بعض البيوت والشقق ، يومها هب شباب
المخيم في حملات إغاثية فتم جمع التبرعات من أموال ومواد غذائية ومفروشات وتم
توزيعها على المهجرين ، كما نشطت المنظمات الفلسطينية في تقديم يد العون لهم دون
تمييز بين فلسطيني ولبناني إلا أن هذه الهجرة كانت قصيرة إذ سرعان ما هدأت الحرب
وعاد المهجرون إلى وطنهم.
وفي
عام ٢٠١٢ بدأت الهجرة الرابعة مع بداية الأحداث المؤسفة في البلاد فقد استقبل
المخيم منذ أحداث حمص مئات من العائلات الحمصية قامت باستئجار البيوت بأسعار
معقولة كما نشطت بعض المنظمات والهيئات الفلسطينية والسورية في تأمين بعض
الاحتياجات الضرورية لهم وظل الوضع هكذا لمدة عام تقريبا إلا أن الحالة تفاقمت قبل
شهر رمضان المبارك إذ لجأ مئات الأسر إلى المخيم قادمة من المناطق المحيطة به من
الحجر الأسود وحي التضامن و القدم والعروبة وحي التقدم ، فاضطرت الأونروا لفتح
أبواب المدارس فاكتظت بهم الأماكن فتم افتتاح بعض مدارس وزارة التربية السورية
وكذا فتحت أكثر مساجد المخيم أبوابها وسرعان ما تشكلت لجان من الأونروا وبعض ناشطي
المنظمات الفلسطينية الذين أضحوا يعملون كخلية نحل البعض يؤمن الطعام والبعض
الكساء والبعض الأطباء والأدوية وحتى قام بعض الشباب بعرض أفلام للتوعية
الاجتماعية والصحية في ساحات المدارس .
وفي
عيد الفطر المبارك لم ينس النشطاء هذه المناسبة فقاموا بتوزيع الهدايا على الأطفال
وإقامة الحفلات الترفيهية في باحات المدارس ومن الجدير ذكره أن هذه الهجرة ترافقت
مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي كالفيس بوك مما سهل تنظيم إدارة رعاية
المحتاجين فقد عملت بعض المواقع على التواصل الدائم مع أماكن المحتاجين وبث ما
يحتاجونه من طعام أو أدوية او أغطية على حسابات النشطاء فسرعان ما يهرع الخيرون
لتأمين ما يحتاجه المحتاجون ، كما نشط الكثير من الشباب في حماية المخيم وضيوفه في
تحييد المخيم من معركة خاسرة لا ناقة له فيها ولا جمل ومن أروع الصور التي رأيتها
مشاركة أكثر الشباب في حملات نظافة المخيم إذ قام الكثيرون منهم بجمع القمامة
وترحيلها إلى أماكنها خوفا من انتشار الأمراض الفتاكة.
هكذا كان
مخيم اليرموك فقد ظل على عهده القديم يحمل معنى اسمه فإن صار به أبنية شاهقة بها
ست أدوار ومحلات تجارية تضاهى أرقى محلات دمشق وشوارع غلبت شهرتها أسماء القرى
التي تحملها إلا أنه بقي مخيما يحتضن أي لاجئ أو مهاجر قسري كيف لا وقد كان المخيم
الأول في سورية حمل فوق أرضه الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين وتحت أرضة الآلاف من
الشهداء وانطلق من حناياه الفدائيون والمجاهدون ليحلموا بالعودة ورسم على جدرانه
ملاحم الشهداء والأسرى والحق الذي لن يضيع بإذن الله ، كيف لا يحتضن الإخوة
الأشقاء السوريين وقد احتضنونا من قبل منذ نكبة 48 في جوامعهم ومساجدهم وتكاياهم فلا
يكون رد الجميل إلا بالأجمل منه. وفي نهاية عام ٢٠١٢ خرج معظم أهالي مخيم اليرموك،
في أيامنا هذه لم يبق من سكان هذا المخيم إلا بضع آلاف حاصرهم الجوع والبرد والخوف
لأكثر من عام ونصف وأما من تمكن من الخروج فساح في أرض الله الواسعة في دمشق وخارج
سورية ولنا وقفة لمواسم الهجرة من مخيم اليرموك حتى يكتمل المقال بما يطابق الحال
. يتبع.......
خليل الصمادي
المصدر دنيا الوطن