لم تنته قضية فلسطينيي العراق بعد.. فمعظمهم ما زالواعالقين على الحدود. بعضهم مرّ ودخل الأراضي السورية، وآخرون صودر استقرارهم في أيجهة كانت.. فأقاموا في «البرزخ» بين العراق وسوريا.
نعيش في «البرزخ».. قال ابن مخيم التنف.
إنه البرزخ الذي يُقيم بين «جحيم» العراق و«جنة» الشتات. بالتناقض العبارة (جنة وشتات)، وباب الشتات الجديد بالنسبة إلينا هو الحدودالسورية، التي أصبحت مزاراً للوفود الأجنبية من مفوضية اللاجئين والسفارات الاجنبيةسعياً إلى ترحيلنا صوب أبعد «جنة» ممكنة.
يقيم مخيمنا؛ التنف يا أخي، قرب «الصراط» الدولي، الذيتنهبه عجلات الشاحنات ولا يفصل أطفالَنا عنه سوى شريط قماشي لا يردّ اندفاع طفل ولايحمي من تدهور شاحنة.
إنها الحدود، ليست كـ«حدود» دريد لحام، بل هي حدود مننوع آخر. مخيم يَقْليه الصيف ويجمده الشتاء في دورة موسمية. بل حتى هناك دورة يوميةيقليه فيها النهار ويقرسه الليل. هي «برزخنا» الذي يقع بين نقطتي الحدود السوريةوالعراقية.
هناك في مخيم التنف، يا له من مخيم قماشي يقف منتصباًبين الثلوج التي تمنع القادمين من الوصول إليه وبين تسع حرائق تناوبت عليه منذ «الهروب الكبير» لفلسطينيي العراق.
لم نكن نعرف أن هناك ما هو أقسى من اللجوء والنكبة،اللجوء موجود في العراق، كما هو موجود في سوريا، فأين نحن الآن؟ وماذا يسمّى المقيمبينهما؟ إنه الفراغ السحيق، بل قل: اللاوجود في أجندة هذا العالم!
محمد البخوري رئيس لجنة مخيم التنف
محمد البخوري من عين غزال، قضاء حيفا، انتقل مع عائلته من العراق إلى مخيمالتنف. هو الآن رئيس لجنة المخيم. ملّ من حكاية التهجير والوصول إلى المخيم،تخطّاها سؤالنا عنها سريعاً إلى وضعهم الحالي. الواجب الآن هو تأمين الحال، قبلالمطالبة بالعودة. محمد يحفظ المخيم عن ظهر قلب "350 شخصاً كنا قبل ثلاثة أشهر، نحنالآن 587 شخصاً، فينا 200 امرأة و170 طفلاً"، ويخجل من كون أهل المخيم لا تستطيعالدول العربية أن تستضيفهم في الوقت الذي تزورهم فيه وفود تشيلية وبرازيلية معمفوضية اللاجئين.
"هربنا من العراق، وكل واحد منّا لديه قصة شهيد أومخطوف، يحملها على ظهره ويضعها كل مساء بين عينيه، يبكي ذكرياتها، لكن.. لا تعنيالنجاة من الميليشيات أن نقع ضحية «برد» الصحراء وحرائقها. والصحراء هناك لاتبخل"عليهم بالعقارب والأفاعي، وفيضانات الشتاء وثلج هذا العام، وتسع حرائق حتىالآن، آخرها كاد يودي بالمخيم بأكمله " لو لم يقم الشباب بعزل الحريق عبر هدم الخيامالمحيطة به لكانت احترقت خيمات المخيم الـ145.. مع أن إحدى الحرائق أكلت من المخيم 37 خيمة".
رئيس اللجنة، بات همّه، بعد أن فقد الأمل بحلّ مشكلةالعالقين، أن يحسّن من ظروف حياتهم ليتجنب حرق العشرات واختناق المئات كل مرة. ويطالب العرب بعتب شديد بستر " أطفالنا ونسائنا المرميين قرب الشارع العام عندالحدود، فالذي يعمل للقضية الفلسطينية عليه العمل على ستر نسائه وأطفاله أولاً.. هذا عتبي على كل من يقول أنا عربي".
ينبّه البخوري إلى أن المستوى التعليمي لأهل المخيمعالٍ، وأن عدداً من الأساتذة تطوع بالتعاون مع الأونروا لإنشاء مدرسة في الخيامويتم التدريس فيها حالياً حتى الصف التاسع، حقق الطلاب تفوقاً نسبياً على مستوىمدارس الأونروا في سوريا، حيث تقدّم طلاب «التنف» للامتحاناتالرسمية.
نكباتيومية
" نريد أن نشعر أننا نتحرك ونغيّر هذا الجمود.. إن" جابوا" أكل ومساعدات أكلنا وإن ما جابوا ما أكلنا.. هل يُعقل أن يعيش أكثر منخمسمائة شخص على المساعدات دون تأمين عمل ومصدر رزق؟!». ما يعنيه رئيس لجنة المخيمتحقق، لم تصلهم المساعدات عندما غمرت الثلوجُ الطريقَ الموصلة إليهم، لعدة أيام غطتالثلوج طريقهم حتى 50 سنتم.. «لا تحكموا علينا بالإعدام في الصحراء.. نناشد كلالعالم.. نحن لا نريد شعارات، نحن نريد التطبيق». يُطرق قليلاً ثم يقول بحسرة: " هليعقل أن يكثر الطلاق بين المنكوبين (نكبة بعد نكبة) وتصل حالات الإجهاض إلى 25 حالةبسبب الحصار ونقص العلاج الذي لا يصل إلا بصعوبة".
نحوالترحيل
" الترحيل هو الحل"، مفوضية اللاجئين تزور المخيم وتخططلترحيل يشبه ترحيل «الرويشد». هل سيرفض أهل المخيم هذا المشروع بعد تجربةالبرازيل؟"حينما تضيق الدول العربية بخمسمئة لاجئ، لا يمكنها أنتعتب على الفلسطيني حين يختار الهجرة، الفلسطيني الذي يعيش في جزر القمر لن ينسىهويته وقضيته، وأفدي فلسطين بأهلي وروحي.. لكن لا يعني أن أموت مشرّداً فيالصحراء" .
مخيم"الهول"
أما مخيم «الهول» فقد وصلوه بعد"أهوال"، والهول الواحد هيّن نسبياً، ولكنه يبقى «هولاً» واسماً علىمسمى!ابن الرملة محمود صيدم، رئيس لجنة مخيم الهول في محافظةالحسكة يفرّق بين وضع مخيمهم ووضع مخيم التنف «فنحن – أولاً – صرنا في أمان داخلالحدود السورية، بعيداً عن دمشق 750 كلم، عند الحدود العراقية من جهة الموصل. كماأننا – ثانياً – لا نسكن الخيام، بل نسكن في بناء من الحجر المسقوف بالزينكووالفايبر. قامت ببنائه حركة «حماس» بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة. لكنه كان بناءً "على العظم"، نحن أكملنا الكهرباء وأعمال الصحية وغيرها.. من خلال بعض التبرعاتالتي وصلتنا من مؤسسات الإغاثة..".
محمود صيدم رئيس لجنة مخيم الهول
صحيح أن حالة مخيم الهول أقلّ مأساوية من مخيم التنف،إلا أنهم يواجهون بعض المصاعب والعقبات الحياتية "المدارس عندنا للصف التاسع فقط،مع العلم أن عندنا بنت اسمها آمال احتلت المرتبة الأولى على المحافظة فيالبكالوريا، ستتوقف الآن عن الدراسة، كما هو حال الجامعيين في المخيم.. لدي ولدانتوقفا عن الدراسة لعدم توفر صفوف عليا أو دراسة جامعية".
هذا، فضلاً عن مشكلة العمل "لا يمكننا أن نعملباختصاصاتنا، فنتوجه إلى العمل الحرّ، في الزراعة ورعي الغنم، تصور عندنا الآنأربعة مهندسين وطبيبان، اشترى كل واحد منهم عشر غنمات، ليرعاها ويستفيد منها، تعالعندنا وشوفهم: الدكتور محمد راعي غنم، المهندس مثنّى راعي غنم، المهندس علي محموديعمل مزارعاً في الحسكة".. هل نقتنع ونقول: هذا هو مستقبلنا؟؟ يخشى صيدم من أنّتحسُّن حالهم كمخيم بدأ ينقلب عليهم، حيث خفّ الدعم عنهم، ولم يعد كما كان في السنةالأولى، رغم أن الأعباء زادت والمدخول يقارب الصفر. ويحصي رئيس لجنة مخيم الهول سكان المخيم "كنا أكثر منالآن، لكن قسماً من السكان «زهق» ورجع إلى التنف أو الوليد، على أمل أن تَحلّمشكلتهم بعض السفارات الأجنبية، لم يبقَ منا سوى 308 أشخاص فقط، وقد ولد بيننا خمسةعشر طفلاً نالوا لقب «نازح ابن لاجئ» ويعيشون معنا في تلك الصحراء".
هل يفكرون في العودة إلى العراق؟ وما هي احتمالاتقبولهم بذلك؟
"لو شفت اللي شفناه ما بتسألنا هالسؤال! أنا شخصياًعندي سبعة شهداء من عائلتي وأقاربي. أما أختي فبعد أن قتلوا زوجها طردوها من منزلهاوصادروه، ثم سألوا عني، وصرت مطلوباً لجيش المهدي، وبقيت متخفّياً عدة أشهر، ولميضطرني لترك العراق سوى الخوف من انتهاك العرض وقتل الأولاد وسلب المال والطرد.. تركت كل شيء لتنجو عائلتي.. وحالتي مثال على حالات أفظع في المخيم".كان أملنا أن نهاجر إلى بلدنا – يقول صيدم – "فلسطينأوْلى بِينا" ولكن بعد ستين سنة في العراق "طلعنا صفر اليدين، بلا هوية أوجواز".
المساعدات
ماذا يفعل بالثلاجتين من لا يملكطعاماً؟!
وماذا سيفعل بالغسالتين من لا يملك ثياباً؟!
لا يحتاج أهل المخيم إلى أدوات منزلية وحاجات يومية،إنهم يحتاجون إلى مال يستطيعون من خلاله تدبير وإدارة شؤونهم، تحضر لهم الجمعياتطروداً غذائية وبعضها يحاول أن يكون أكثر كرماً، فيتنافسون في تقديم هذه الأدوات.. والأكثر إيلاماً أن بعض التجار صار يعرف بالأمر، فيسأل وينتظر وصول المساعدات"ليشتريها بأرضها وبنصف ثمنها" مستغلاً حاجة أهل المخيم للمال!"كنا نطالب بترشيد المعونات والمساعدات، ولكن الآننطالب بإعادة النظر، لقد تركتنا الهيئات الإغاثية بعد السنة الأولى، ولم يعد يزورناأحد سوى لجنة من حركة حماس في مخيمات حلب ولجنة أخرى من مخيمات حمص، وما زالوامستمرين وجاؤوا يوم العيد وأحضروا لجنة إغاثة تركية وقدموا لكل عائلة خروفاً وطرداًغذائياً وألف ليرة سورية".
الجدارالأخير
أخيراً، هل سيقبل الفلسطينيونالترحيل؟لقد خسروا حتى الجدار الأخير، كانوا يأملون أن تقومالدول العربية بإيوائهم، لكن المأوى جاءهم من خلف البحار.البحر هذه المرة، أمامهم.. أما خلفهم فجدار هدّتهالإرادة الأمريكية والمصالح الصهيونية والتقصير العربي.. والبحر الذي سيركبونه إلىتشيلي لن يحرقوا فيه سُفُن العودة بل ستبقى راسية في الموانئ بانتظارالعائدين..
سكانمخيم التنف في ازدياد
زيادة سكانيةواضحة، بعد عشرين يوماً من مقابلة رئيس لجنة مخيم التنف محمد البخوري، وفي أثناءإعداد التقرير، اتصلنا بالناشط الفلسطيني تامر أبو الحسن الذي غادر العراق سابقاً،ويعمل بين دمشق والحدود السورية العراقية في إغاثة ورعاية شؤون اللاجئينالفلسطينيين النازحين من العراق، فأكد أن عدد سكان المخيم أصبح 660 نسمة (بعد أنكان 587 نسمة منذ عشرين يوماً) . "لاحظنا زيادة عدد سكان مخيم التنف أخيراً، بسببانتقال بعض النازحين إليه من مخيمات وأماكن أفضل حالاً منه. وذلك بسبب الإشاعاتوالأخبار التي تنتشر حول أسباب الزيارات المتكررة لمفوضية اللاجئين، وأنهم يعدّونالعدّة لنقل عدد من سكان المخيم إلى دولة تشيلي، كما نُقل نازحو مخيم الرويشد إلىالبرازيل".وهل هذه الإشاعاتصحيحة؟نعم صحيحة – يقول تامر – وقد حضرت لجان من المفوضيةوأجرت لقاءات مع 120 شخصاً، وأعدّت تقاريرها، وستتم الموافقة على معظم الأسماء خلالأيام ليجري العمل على نقلهم خلال شهر آذار/ مارس إلى تشيلي..