أما فيما يتعلق بهذه الحالة بعد الربيع
العربي، فيرى "رميح" أن أهم مَلامح الحراك خلال ثورات الرَّبيع تتلخص في
تَبَلور الانقسام الفكري داخل النُّخَب والقُوى السياسيَّة والمجتمعية، وتمدد هذا
الانقسام إلى عُمق نخب جَديدة، وهَيمنة الصِّراع الأيديولوجي العقائدي على
القَضايا المطرُوحة على الجمهور خارج أطر النُّخبة والكتب والبحوث والدراسات، بل في
الإعلام.
والحقيقة أن شكل الحالة الفِكرية قبل
الرَّبيع العربي مُشابه إلى حدٍّ كبير للحالة الفكرية بعد الربيع؛ إذ هو لم يخرج
عن حالة الاصطفاف بين تيارَين: أحدهما إسلامي، والآخر علماني، وإن كان ثمَّة فارق
يمكن اعتباره، ألا وهو اشتداد حِدَّة هذا الصراع بعد ربيع الثورات؛ إذ أصبحت عملية
الاستقطاب أو الاصطفاف واضحة بلا مُواربة أو حسابات، التي كان يراعيها التيار العلماني
قُبيل ربيع الثورات؛ إذ كان يحرص على أن يبدو وكأنه يدافع عن حقوق الإسلاميين
المُهدرة، ليس من منطلق الاتفاق الفكري مع الإسلاميين، ولكن من مُنطلق إيمانه
بحقهم في الوجود والحياة، وهو الادعاء الذي تكشَّف زيفُه، كما ذكرنا في الحلقة
الثانية من مقالنا.
وبِناء عليه؛ فإن مَسار الصِّراع الفكري
تحوَّل من طَوره النَظري إلى طوره العملي، بعد أن أصبح الإسلاميون في الحكم، أو
بالأحرى بعد أن أصبح أحد فصائل الإسلاميين في الحكم، ومن ثَمَّ فقد قدِّر لبعضِ
أطروحاتهم أن تكون على المحكِّ في أرض الواقع، فإمَّا أن تنجحَ ويُثبت القائمون
عليها صدقها وقدرتها على تحقيق النهضة والتنمية الشاملة، وإما أن تفشل هذه الأطروحات،
وساعتها لن يكون فشلًا لهذا الفَصيل الحاكم فَحسْب، وإنما سيكون فشلًا لكل الفصائل
الإسلامية، وهو ما سيمثل ضربة قاصمةً للجميع، الأمر الذي يدفعنا للإشارة لنقطتين
مهمَّتَين:
الأولى: أن أمر التعاون بين الإسلاميين،
ووجوب تقديم الدَّعم من بقيَّة الفصائل الإسلامية للفَصيل الذي وصل للحُكم - بات
أمرًا وجوبيًّا وليس اختيارًا، ولا يَعنى ذلك أن يَتم تقديم السياسي على الفكري؛
وإنما المقصود هو أن تولى الحركَة الإسلاميَّة اهتمامًا مُتزايدًا بالمسألة
السياسية وفق أولويات المرحلة؛ لتفادى تهاوى المشروع الفِكري الإسلامي برُمَّته،
وهو أمر سيمثلُ خطورةً على الجميع.
الثاني: أن جميع الأطراف الإسلامية مُطالَبة
بالدُّخول في حوار بَيني لتقريب وجهات النَّظَر، وتحقيقِ أكبر قدر من التوافق الفكري
والحركي، الذي يفترض أن ينعكس في أشكال عملية، كالتنسيق الواسع بين الإسلاميين في
الانتخابات البرلمانية والمحليات وغير ذلك.
الأمر الآخر والمتعلق بمسألة الشيعة والتشيع:
هو أن هذه القضية لم يَعد فقط أمر الضغوطات الخارجية المتعلقة بها هو الجانب الأهم
فيها، بل إن المسألة تعدَّت إلى كونها أحد قضايا الاستقطاب داخل الصف الإسلامي بعد
أن تباينت المواقف الإسلامية من التعاطي مع القضية، فكان من بين الإسلاميين من
اتخذ موقفًا مُتقاربًا مع إيران بدعوى "توحيد الصف الإسلامي" في مواجهة
التحالف الأمريكي الصهيوني، ومن ثَمَّ غض الطَّرْف عن بعض السلوكيات والسياسات التي
تمارسها إيران في المنطقة؛ باعتبار أن ذلك من باب الخلاف السياسي الناتج عن تعدد
الاجتهادات.
وفى المقابل فإن أطرافًا إسلاميَّة اتخذت -
وما زالت - موقفًا حَذرًا ومتحفِّظًا تجاه الكثير من السياسات الإيرانية، التي
تمثل تناقضًا صريحًا وفجًّا مع ما تدَّعيه "طهران"، فهي - مثلًا - لا تَفتأ تُعلن
مرارًا وتكرارًا عن دعمها وتأييدها للمقاومة الفلسطينية ولفصائل المقاومة، في الوقت الذي كانت القوة الرئيسية وراء ذبح
وطرد الفلسطينيين في العراق، أو الوقوف بالمرصاد أمام الشعب السوري الثائر ضد نظام بشار الأسد المستبد.
لكننا وبغض النظر عن تقييم هذه المواقف
الإيرانية؛ فإن الشاهد هو أن مستقبل العلاقات البينية فيما بين أطراف الحركة
الإسلامية أصبح مرهونًا أيضًا بالموقف من إيران، الذي سيكون أحد محددات مسار
مستقبل الصِّراع الفكري العربي، بعيدًا عن مستقبل العلاقات الأمريكية - العربية،
ومدى ما يمكن أن تشهده الأيام المقبلة من حالة استقلال سياسي واقتصادي من التبعية،
التي كانت الحالة البارزة قبل الربيع العربي، وهو ما يدفعنا إلى القول بأن إيران
باتت بذاتها ملفًّا خاصًّا يجب فتح المناقشات الجادَّة حوله؛ حتى تتضح للإسلاميين
رؤيةٌ متقاربة بشأن الموقف إزائه.
المصدر : صحيفة المصريون
25/5/2013