ألف كيلوغرام من الحمم تحرق الإنسان طفلا وشيخا وامراة وشابا داخل سجن مغلق ومحاصر منذ عام 2005، برًا وبحرًا وجوًا.
يشرب أهل القطاع مياهًا ملوثة بمياه المجاري، ويستنشقون روائحها في أزقة المخيمات. يُقتلون إن حاولوا الاقتراب من بحرهم لاصطياد السمك، كما يصرخون من شدة الألم على أسرة مشافيهم حيث لا دواء، ولا حتى ضمادات، إلا بالقطرة منذ تسعة أعوام. يدرسون على ضوء القمر، ورموا ثلاجاتهم وأدواتهم الكهربائية صدئة، فلا حاجة لأدوات دون كهرباء. أرضهم الزراعية لوثتها إشعاعات الأسلحة المشبعة باليورانيم المنضب، التي صبت فوقها خلال عدوان واثنين وثلاثة في أقل من تسع سنوات.
استنجد الغزيّون بباطن الأرض وحفروا الأنفاق بأظافرهم لإحضار زيوت نباتية، تعوضهم عن حصار البنزين والوقود لتحريك سياراتهم ودراجاتهم النارية، فقصفت الأنفاق على من بداخلها.
لا أحد في هذا العالم الغربي والشرقي الذي يدعي التحضر يستطيع أن يستوعب، كيف لهذا الجزء من الشعب الفلسطيني أن يبقى على قيد الحياة، وأية حياة! يتذكرونهم فقط عند مشاهدة جثث الأطفال المحروقة والأعضاء المقطعة. وكأن لسان حالهم يقول، كما قال أحد زعماء الحرب الإسرائيلي يومًا "أتمنى أن أستيقظ يوما وأرى غزة تغرق في البحر."
غير ان غزة لم ولن تغرق، وأهلها لا يزالون فيها ضمن مشهد يشكل معجزة في القرن الواحد والعشرين، الذي أتخمته حياة الرفاهية والبذخ وحب الذات. ومن بين هؤلاء الذين لايزال لديهم شيء من إحساس أو وخزة ضمير، لا يستطيعون الوصول أو إيصال الماء والدواء والطعام، أو حتى حضن دافئ لآلاف الأطفال اليتامى، وهؤلاء الذين في كل مرة تقرر فيها ادمغة آلة الدمار والإرهاب الإسرائيلية أن "تجرب" فيهم أو "تغير وضعًا" أو تعيد محاولة التخلص منهم. ترعبهم وترهبهم صفير مقاتلاتهم القاتلة وزناناتهم (الزنانة هي الطائرة من دون طيار التي تتجسس على أهالي غزة 24 ساعة في اليوم)، فلا يعلم أحد أي كيلوغرام من حممهم سيسقط على منزله ويحرقه أو أمه أو أشقائه.
وفي كل مرة يصفق "الكلاكيت" كأننا كومبارس في مسرح تصوير: عدوان رقم واحد، عدوان رقم 2، عدوان رقم 3.. يرتقي الشهداء، ويتألم الجرحى المحترقين بحمم القنابل وأنين أسقف منازلهم التي تحطمت فوق رؤوسهم. يبكي البكاؤون، ويمنون على هؤلاء بفتات موائدهم. وتبقى غزة شامخة بحزنها، متألقة بكرامتها وعنفوانها، كما الفرس الأصيلة التي تأبى الاستكانة.
لا فرق بين الطفل محمد أبو خضير الذي خطفه محتلون من حضن أمه وسكبوا البنزين عليه وأحرقوه حيا، وبين مئات الأطفال الذين أحرقتهم حمم القنابل والصواريخ أحياء في أحضان أمهاتهم، حيث يتفاخر الجيش الإسرائيلي ببث مقاطع فيديو لعمليات الحرق هذه، وكيفية الحرق، ويبثها للإعلام على أنها إنجازٌ حربي وخبر يستحق النشر.
في غزة.. لا يوجد وقود أصلا لينقل الأطفال المحترقين إلى المشافي أو القبور. وهذا العالم الذي استنكر حرق جسد محمد الغض، يطالب إسرائيل التي تحرق العشرات بحممها وأسلحتها بـ"ضبط النفس" في عمليات حرقها لأطفال غزة، فاسرائيل في وسائل الإعلام الغربية والعربية "ترد على صواريخ المقاومة.". فعن أي إنسانية تتحدثون؟
المصدر وكالة وطن للانباء