محطة من محطات التشرد الفلسطيني الهائم على وجهه في شتى أصقاع المعمورة ، قاتلة الأحلام الجميلة والطفولة البريئة الهاربة من شبح الموت الممتد ذراعه حول أعناق الفلسطينيين في كل مكان ، محطة ليست كباقي محطات اللجوء الفلسطيني ، عندها توقفت عجلة التاريخ لتشغلنا في تفاصيل الزمان والمكان ، ولتعيد لاجئيها من فلسطيني العراق عند نقطة الصفر وكأنها نسخة واقعية من لعبة السلم والأفعى ، فما أن تقارب على الوصول حتى تفاجئ بعودة سريعة إلى خط البداية .
محطة لم يكن وصولها بالأمر الهين والسهل ، بل كان عبارة عن سلسة مترابطة ومتلازمة من الخوف والظلم والقتل والخطف والرعب والموت ، فالوصول كان بشق الأنفس ، كان ببيع ربيع العمر، بيع المسكن ومحل الرزق وكل ما يملك لاجئ فلسطيني عاش في العراق لسنين طوال ، وان لم تكن أموالاً كثيرة فهي ذكريات العمر وتعبه ، والآم عشناها بالدقائق والساعات وليس بالأيام ، ذكرى أيام جميلة محتها خفافيش الظلام وغربان البين ، لتجبرنا على الهروب ولتخيرنا بينه أو بين القتل أو الاعتقال على الهوية التي تمسكنا بها حتى آخر لحظة ، هو خيار من لا خيار له ، هروب باتجاه الحدود ودول الجوار لتبدأ بعدها معاناة أخرى هي أشد مرارة ، معاناة الوصول إلى المجهول ، فلم يكون الوصول إلى جزيرة الأحلام سهلا ، فهو يحتاج إلى المال والمغامرة ، وتسليم الرقبة لأمواس المهربين ، الذين لا يرقبون في أحدٍ إلا ولا ذمة .
لتبدأ الرحلة المحفوفة بالمخاطر فمنهم من وصل ، ومنهم من اعتقل قبل أن يصل ليعاد مجردا من أمواله التي كانت كل ما يملك ، ومنهم من قضى نحبه في طريق الموت ، فحسبي الله ونعم الوكيل ، فكلما أتذكر عائلة الأسعد التي قضت في البحر ترتجف يداي ولا أقوَ على الكتابة فكيف تُمسح الدموع ويخط القلم مداده إن لم يكن لدي من الأيدي سوى اثنتين ، هرب الرجل بطفلتيه ينشد بلاد الأمان وجزيرة الأحلام ، لم يكن يدور في خلده أن الأمان فُقد عند فلسطيني العراق بل وتوقفت رحاه عن الدوران ولم يعد كائناً موجوداً في قاموسنا المثقل بكلمات التهجير والقتل والاعتقال والخيام والولفر والسالم سيرفر .
وطأت أقدام فلسطيني العراق أرض قبرص التي لولا فلسطين لكانت اليوم دولة لليهود ، وطأتها أقدامنا الحافية وأجسادنا العارية بعد رحلة تهريب مريرة فقدنا فيها حتى ملابسنا ! ، لنمني أنفسنا الأماني ، وأحلام الأمان والراحة -بعد طول معاناة - تلف عقولنا وتغلف قلوبنا التي كانت تخفق من الخوف وباتت تخفق من الفرح الغامر ، لم نكن حينها ندري أن الأيام القادمة حبلى بالمفاجآت ، وأن القدر يخبئ لنا الكثير ! .
بدأت الحياة طبيعية ومغرية للكثير، وبدأ الفلسطينيون بالتأقلم مع البلد الجديد وبدأوا بتعلم اللغة وتكوين الجمعيات متوقعين الحصول على اللجوء أسوة ببقية اللاجئين في أوروبا ، ومضت الأيام والأشهر وإذ بالأمور تنقلب والأحوال تتبدل ، والصكوك تسحب والإقامات تلغى، وإذ بالغريب والقريب يتآمر علينا والهدف إخراجنا من جزيرة الأحلام التي تحولت إلى كوابيس وأوهام ، لتبدأ المعاناة من جديد ، اللاجئون في الدول الأخرى أخذوا الإقامات وبدأوا بالحصول على الجنسيات وفي هذا البلد ، لا جديد فالحال نفس الحال بل الأمور في تراجع كبير بدأت بسحب الحمايات وقطع الرواتب لتنتهي بالطرد ، ولكن إلى أين ، إلى الخيام مرة أخرى أم إلى البحر نرمي فيه أنفسنا ليكون يوم الخلاص ، فلا طريق غير ذلك فلا أحد يريدنا ولا أحد يستقبلنا ، ولو كنا يهوداً لتزاحم العرب والعجم على استقبالنا وفتح الحدود أمامنا .
ما الذي فعله فلسطينيو العراق ليفعل بهم هكذا ، هل لأنهم تظاهروا مثلاً لطلب بعض حقوقهم في دولة ديمقراطية ؟! ، أم لأنهم ردوا على إساءة البعض لهم ، أيريدوننا أذلاء خانعين خاضعين للصك !! ، لماذا لم يتخذ أي إجراء بحق من تعرض للفلسطينيين وسمعنا حالات كثيرة من الاعتداءات، أهذا ما يراد لنا إن ضربنا على خد أن نعطي الخد الآخر ، ليست من شيمنا وليست من عاداتنا ، فكرامتنا وعزتنا أغلى من كل شيء ، فليعلم الجميع ذلك نحن قوم لا نعتدي ولم نعتدي على أحد وكنا أديبين ان لم يكن مطالبة ببعض حقوق من قلة الأدب في بلاد الديمقراطيات !، نطلب من الحكومة القبرصية إيضاح السبب ، نطلب من العاملين في دوائر الحكومة اتخاذ موقف مشرف تجاه اخوانهم ، نطلب ممن حصلوا على اللجوء اتخاذ موقف مشرف يحسب لهم يتفاخرون به إلى يوم الدين ، نطلب من سفارتنا التدخل ، أم ان فاقد الشيء لا يعطيه ؟ ، فإن كانت سفارة بلا عمل فالأجدى بهم الاستقالة خير من أن يصرفوا آلاف الدولارات عليها من قوت الشعب الفلسطيني ، الذي جل معاناته هي من هؤلاء الباحثين عن المال والثراء على حساب الشعب الفلسطيني وتضحياته .
فتكاتفوا وتآزروا وتناصحوا يا فلسطينيو قبرص وتوكلوا على الله لا على غيره ، فالخير من عند الله هو المعطي وهو ارحم الراحمين ، فلا تقنطوا من رحمة الله يا فلسطينيو قبرص ، فإن بعد العسر يسراً، إن بعد العسر يسرا.
جزءٌ يسيرٌ نقلته من معاناة فلسطينيي العراق الهاربين إلى قبرص، الفارين من جحيم المليشيات الطائفية، الهاربين من القتل والخطف والأسر ، العابرين للبحار بحثاً عن الأمان والعيش الكريم ، المطالبين بحقوقهم في بلاد تدعي حقوق الإنسان ، المناشدين الخيرين مساعدتهم وإنقاذهم من مصيرهم المجهول ، المبتهلين لله ليل نهار بأن يفك ضيقتهم ويحل أزمتهم ، الراضين بالغربة والاغتراب في سبيل الأمان ولقمة العيش الكريم ، المبتغين العودة إلى أراضيهم في فلسطين المتأملين ذلك كل يوم وكل حين .
محمد ماضي
19/7/2011
المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"