فعندما تسقط دولة في براثن
الحرب والنزاع وتنتج اللاجئين يصبح اللاجئ بحد ذاته صفة للمعاناة في الحياة، كما
يصبح اللاجئ بلا اسم وبلا عنوان أو هوية كما يصبح بلا مكان وفي أدنى مرتبة في سلم
الاضطهاد. ومع أزمة اللاجئين تصبح المجتمعات التي يلجأ إليها الناس أكثر تصنيفاً
للاجئين بناء على دولهم وانتماءاتهم وأعدادهم، فاللاجئ إنسان فقد أرضه ومكانه
وأمنه ومنزله، وهام مع أسرته بحثاً عن أمان وسقف جديد ومكان لا يضطهد فيه لمجرد
انتمائه لفئه من الناس أكانت من السنة أم من الشيعة أم من الأكراد أم من العراقيين
والفلسطينيين والسوريين وغيرهم. رحلة العذاب للاجئ تبدأ بمجرد تركه منزله وقريته
ومدينته. ربما لو بقي الفرد حيث هو لمات تحت الأنقاض ولحصل الأمر ذاته لأسرته، فمن
خلال لجوئه وتركه المكان تبدأ رحلة عذاب لا نهاية لها ولا تحدها أبعاد.
اللامواطنة
الناتجة من اللجوء ستعني عملياً: عدم امتلاك أوراق الانتماء إلى دولة أو جنسية
محددة، أو ستعني أن هذه الأوراق والجنسية فقدت قيمتها التي تسمح بالانتقال والسفر
من مكان إلى آخر. هذه حالة تشمل ملايين العرب ممن فقدوا أوطانهم بسبب الحروب والتي
تتكون من كتل سكانية كبيرة كالفلسطينيين والسوريين والعراقيين واليمنيين ممن
تحولوا إلى لاجئين بسبب التدمير المنظم لقراهم ومدنهم. ففي لبنان أكثر من مليون
لاجئ، وفي الأردن مليون لاجئ معظمهم من سورية. وفي تركيا أكثر من مليون ونصف لاجئ
سوري. كل دول المنطقة تعاني من اللاجئين بالإضافة إلى اللاجئين الداخليين. فنصف
سكان سورية وأعداد كبيرة في العراق واليمن هم من اللاجئين الداخليين.
الدول هي
المسبب الأساسي لقضية اللاجئين. إن حروب الولايات المتحدة في الإقليم وبخاصة في
العراق، وحروب إسرائيل في ظل سياسة التطهير العرقي، وحروب روسيا في سورية ونزاع
إيران مع العرب ونزاع العرب مع إيران، بالإضافة إلى الاستبداد العربي الذي يولد
بطبيعته القاسية الحروب الأهلية والإرهاب، كل هذه أدت مجتمعة إلى انتشار اللاجئين
في بلادنا العربية. الأخطر أن قضية اللاجئين لا حل قريباً لها، فهي تزداد انتشاراً
مما يهدد المجتمعات بما هو أكثر تدميراً.
وتتعامل
الدول في منطقتنا مع من لا يمتلك الأوراق بصفته خطراً على أمنها، فهي تجد صعوبة في
التعامل معه كإنسان يتطلع لبداية جديدة وحقوق تؤمن له الاستقرار اللازم إلى أن
تتوافر الظروف لعودته. اللاجئ في المفهوم العربي عبء على الدولة والاقتصاد
والمجتمع، ووجوده يكشف عجز الدول عن التعامل مع الأزمات، وهذا يختلف عن أوروبا
التي امتصت أعداداً كبيرة من اللاجئين في ظل ظروف إنسانية مختلفة. في أوروبا وجدت
الدولة في النازحين إليها وسيلة لتغطية النقص السكاني ولإعطاء الاقتصاد دفعة، أما
في دولنا حيث اقتصاد المحسوبية والفساد وحيث فساد السياسة وفساد القطاع الخاص،
فيقع اللاجئ فريسة سوء الأوضاع المحلية وفسادها. ويجد اللاجئ بالتالي في بلادنا
صعوبة في إدامة التعليم لأولاده وفي إيجاد علاج لأسرته وفي حل مشاكله اليومية،
ويجد كل الصعوبة في حياة كريمة، بل يكتشف أن الدولة التي تستضيفه فاشلة بالأساس في
التعامل مع شعبها وأقاليمها ومناطقها وفقرائها ومهمشيها لكي تستطيع التعامل معه.
وبسبب انحياز
الدول للدول وذلك بصفتها أعلى هيئة لتنظيم السكان والاقتصاد في رقعة جغرافية محددة
يعجز اللاجئ عن التعامل مع قضيته، ففي كل تحرك لتأمين حقوقه يصطدم بالدولة بصفتها
السيادي والكياني والتنظيمي. ويصل هذا الأمر إلى أسوأ مراتبه في العالم العربي
بسبب ضعف التعامل الإنساني مع الحقوق، ففي العالم العربي تعكس القسوة على اللاجئين
كمنع حركتهم وعملهم وتعليمهم الحالة المرضية التي وصلت إليها أوضاع حقوق الإنسان.
حتى اليوم لا يزال اللاجئون الذين جاؤوا عام ١٩٤٨ من فلسطين إلى لبنان على سبيل
المثال يعيشون في وضع يمنع عنهم العمل والكثير من الحقوق التي هي معطيات طبيعية في
معظم الدول، ومن جهة أخرى دفع اللاجئون الفلسطينيون في سورية ثمناً كبيراً في ظل الثورة
السورية وذلك من خلال اجتياح وانتهاك مخيمات اللاجئين، كما دفع فلسطينيو العراق
ثمناً كبيراً بعد سقوط النظام عام ٢٠٠٣. لهذا ففي الأزمات الكبرى يدفع اللاجئون
الثمن المضاعف. فكثيراً ما تنجح الدول في تحويل الأنظار عن مشكلاتها البنيوية
وسياساتها العنصرية وذلك عبر التركيز على فئة ضعيفة كاللاجئين. بهذا تخلق الدول
عدواً وهمياً بهدف تغطية عجزها في المجالات الحيوية.
إن جزءاً من
برميل البارود القابل للاشتعال في إقليمنا العربي مرتبط بحالة اللامواطنة التي
تشمل ملايين الأفراد من سكان العالم العربي. هذا المشهد يهدد بالانتشار بصورة
أكبر. فحروب الداخل وحروب الأنظمة ضد الشعوب وحروب الغرب ضد الإرهاب وحروب الدول
ضد الدول، جميعها صراعات تخلق أعداداً جديدة من اللاجئين. إن اختصار المشهد بعدو
أحادي في مكان بعينه لن يحل المشكلة، فنحن أمام حالة ملتبسة يلعب الاستبداد العربي
فيها والتفرد والاستحواذ دوراً محورياً، وهذا يعني أن الدولة في منطقتنا بصفتها
الإدارية والعسكرية تلعب الدور الأساسي في إثارة النزاعات والحروب. هذا الوضع
انعكاس لأزمة العلاقة بين المواطن والدولة وبين الدولة ومكوناتها وبين صنع القرار
من قبل الشعب وبين صنعه من قبل النخب المتخاصمة. ما وقع في الإقليم حتى اليوم
مرتبط بصورة أكبر وأشمل بغياب ثقافة حقوق الإنسان وباستباحة الغرب أكان الروسي أم
الأميركي للواقع العربي، وارتبط بنفس الحدة بالمصالح الإسرائيلية التي تفضل الحروب
في الإقليم العربي على التهدئة والسلام.
في الماضي
دعا أكثر من مفكر لإلغاء الدولة أو لتغيير شكلها وطريقة تنظيمها وإدارتها للعلاقات
التي تحيط بها. فقد صنعت الدولة من المظالم ما لم تصنعه الطبيعة والزلازل
والبراكين. مظالم الدول كممارسة الحروب والاضطهاد والتمييز أنتجت الكثير من العنف
والدمار واللاجئين في العقود القليلة الماضية. فالدول تبني الأسوار وتمهد للحروب
وتعزل الفئات وتعلن الأعداء كما تغلق الحدود. ما أحوجنا في العالم العربي إلى
إعادة النظر بالدولة ودورها وطريقة صنعها للقرار وعلاقتها بمجتمعها وفئاتها
وطوائفها وتياراتها والقوميات التي تتكون منها والحدود التي تفصلها عن الآخرين.
إعادة النظر هذه يجب أن تضع الإنسان وحقوقه في قلب فلسفتها. هذا سيؤدي في حال
وقوعه إلى دول أكثر قوة واستقلال أكثر وضوحاً ووحدة أكثر منعة، وهذا سيخلق بدوره
رحمة جاذبة ومنارة لنمو الحضارة على حساب الاضمحلال والتآكل.
* أستاذ
العلوم السياسية في جامعة الكويت