دقاثق صعبة تمرّ برتابة قاتلة، دقائق مرعبة تتسارع بكثرة الداخلين والخارجين من السجن، أفكاري مشدودة نحو باب زنزانتي والجلاد .
تتلبد سماء زنزانتي بالغيوم، غمغمات الرعد ترعب زفراتي، أسرق نظرة خاطفة عبر ثقب الباب وأنا أسأل نفسي: ماذا يجري هناك ؟ تتنامى في داخلي الظنون، تحثني على اقتحام الجدران، لكن هيبة المكان تقيدني.
يتسلل الهدوء إلى المكان، قلبي يرتعد، يصارع الهواجس في ظلمات الغربة، تصطدم بوحشة الوحدة بين جنبات الزنزانة تنبعث من جدرانها الضيقة أدخنة الوجع ونيران اللهفة بالخروج لترسم بخاطري جملة أفكار مشتتة:
لماذا كل هذا؟لماذا يحدث هذا ؟ لماذا انا هاهنا؟ أهو القدرالمحتوم ؟ وما الذي قذف بي نحو هذه البلاد الموحشة؟ أم إن اقوال من انحل امانهم وضاع كبريائهم هو من قادني إلى صقيع الغربة؟
يتوقف شرودي الطويل، أهرب قليلا من صراع الأفكار وحرب الهواجس، أتلمس وجهي الممتلئ بالشعر، وأحك عيني التي تشتاق للنوم وهي تئن تحت وطأة الحيرة، أشيح ببصري بعيدا، قطرات العرق تتساقط من شعري بغزارة على وجهي ، كأنها تشاركني عمق الجراحات ..كأنها تطفئ لهيب الآلام، ليتفائل قلبي ويلهج لساني بالدعاء وسط المكان الذي يعج بتماثيل بوذا.
تتصادم صور متنافرة في ذاكرتي، يختل توازني، أتوق لحـضن اطفالي، أتمنى قرض الباب بأسناني حتى اهرب من هذه الزنزانة كي اذهب لأمسح الدمع الساقط على وجنتيهم وأطفئ نار لوعتهم لانتظاري، يخفت ويعلو أنين في صدري..هناك بعيدا عني، ها هي روائح الصمت تنتشر بين جدران الزنزانة مرة اخرى، تشدني خطوات الجلاد التي كانت تجوب الممر،بعيدا الى الزاوية لماذا توقفت فجأة؟ أين تمتماته؟ أين صرخاته ...لقد هيجت أحشاء قلبي الراكدة.
أتأمل الزنزانة أغوص في أعماقها السحيقة، يتضخم شيئا فيها أتحسس الألم بداخلها، تختلط أحاسيس قلبي وتتزاحم الذكريات في عقلي، حياتي ومصير عائلتي في خطر ، تبوح شفتاي ببعض كلمات غير مفهومة، تسيل الدموع من عيني، يصعقني المشهد، وتضاجعني الجروح، يدك الخوف قلبي بقوة ..أرتعش من وحشة الحر وقسوة المنظر، تدفعني دموعي للهروب سريعا من كآبة المكان حتى لا ينكشف لي ضعفي القاتل.
تتزايد نبضات قلبي، يلتهم البكاء شجاعتي، تتلعثم الحروف في لساني، يتصاعد فوران الدم في دماغي..أخطو خطواتي بدون انتباه ، اسقط , انهض , أبحث عن مكان يأوي هروبي، أريد اخفاء وجعي، لعلي أعصر قهري ..لعلي أغسل همي، مشيتي تتخللها ذكريات جميلة، لأجد نفسي بعد دقائق عدت أركن أحد الزوايا البعيدة في الزنزانه.أغمض عيناي، وأنكفأ على نفسي، لتمر صور اطفالي على ذاكرتي البعيدة، تنساب دموعي، أتساءل: كيف سأعيش ولن يكونوا بجانبي ؟ كيف سأتنفس هواء الحياة وهم بعيدين عني؟
أرفع رأسي بعدما سافرت في ظلمة أوجاعي، أتأمل المكان الغريب مرة اخرى، أنظر إلى الباب تهاجمني الأفكار من جديد، هل؟ هل سينتهي هذا الكابوس المرعب ؟ وما هذا الماء الذي تغرق به ملابسي؟يداي ترتعشان، أزيح جبال الهموم عن كاهلي، أهرول ...أركض... أنادي... استغيث بداخل روحي.... أمي...أبي....اخوتي...اولادي!!، أتخبط في الجدران اللعينة كأني أتوسل العطف منها، وحجر الجدران يتصفح يأسي، اجتاز الأماكن والصور والملامح لأصطدم أخيرا ....بصوت الباب وهو يفتح !!!!!!وبوجه جلادي وقسوة قلبه الذي لم يعرف الرحمة، يفضحني الخجل من دموعي ليفاجئي بالصراخ وبصفعة تهوي بي الى الارض.. أنت؟ (يا عرص يا حيوان) انهض وتعال؟يجرني بقوة تراودني أحاسيس مختلطة، يطول الصمت، في اثناء ذلك يخفق قلبي لرؤية غرفة التعذيب يدخل من الباب جلاد اخر، يرتسم الغضب على وجهه ، بيده سوط كتب عليه لا رأفة ولا شفقة اكاد ان اشعر بحرقته قبل ان يلامس جسدي !فتمتلأ الغرفة بتماثيل بوذا ويبدأ السؤال
س: اعترف انك من المنبوذين ؟
ج: لا لن اعترف !
س : اعترف انك من المعدمين ؟
ج: لا لن اعترف!
س : اعترف انك من الذين لايستحقون الحياة ؟
ج :لا لن اعترف !
ج :اعترف انك من الذين لا يملكون وطن ؟
هنا ينكسر كبريائي فأعترف نعم انا من لا وطن له فأصبحت كل بقاع الارض اوطاني رغما عنكم ورغما عني !!؟؟نعم انا من ضاقت بهم الارض بما رحبت !!!نعم انا فلسطينييييييييييييييي فتبدئ صرخاتهم بلغات لم اسمع بها من قبل وباهازيج انتصاراتهم وبلملمت الغنائم من جسدي بأدواتهم التي كتب عليها صنعت خصيصا لتلك الاجساد! وتنطلق رحلتي مع العذاب فأدخل بعالم ليس عالمي وحياة ليس حياتي التي حلمت بها وتبدأ اطرافي تتخدر وجسدي يتهدل حتى افقد الاحساس بكل شيء حتى بانفاسي؟!
زهير السبع
2/2/2011
المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"