روح المكان وهويته تشكلان محور جدل أردني، تشهده هذه الجغرافيا، فمن رحابة فكرة تأسيس المملكة، الممتدة روحا في عمق دولة عربية موحدة وكبيرة، أَملها مؤسس شرق الأردن الملك عبدالله الأول، إلى ضيق الجغرافيا، التي خط حدودها وزيرا خارجية- البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو- في اتفاقية "سايكس- بيكو"، ثمة موجات لجوء كبيرة، حملت معها الكثير من الثقافة والاجتماع، إلى الجانب السياسي والاقتصادي.
"أصحاب الفزعة"، هو الوصف الدقيق للشعب الأردني، أو وفق النعت الدارج "شعب شرق الأردن"، الذي انتصر- تاريخيا- لطالب العون والأمان، ممن ضاق به وطنه، لظلم أو احتلال، فكان الأردني- بوطنه- المأوى والمأمن.
تنتسب الجغرافيا الأردنية إلى قيم شعبها، المتجذرة فيه "البداوة" بدلالاتها الواسعة، المستندة إلى الشهامة والرجولة والكرم، بما يتضمنه هذا من "انفتاح" على الآخر، وهو ما "أتاح لهذا الجذر النمو في أنماط حضرية ومدنية مع حفاظه على أصالة القيم السائدة"، هذا ما قاله عاكف العدوان، ابن القبيلة العريقة الممتدة بين وسط وغرب المملكة المحاذي لفلسطين المحتلة.
جغرافيا ملتهبة :
ويضيف العدوان: "الأردن يتوسط جغرافيا ملتهبة، يدرك معانيها الأردني، الذي طالما دفع ثمنا باهظا في نصرة الملهوف، فكان الملجأ- بعد الله جل وعلا- للشعب الفلسطيني على مدى 6 عقود، تفصلنا الآن عن النكبة الكبيرة وما تبعها".
لا يواري العدوان مخاوفه، التي تتخذ اشكالا اقتصادية وربما أمنية، إلا أنه يرى "اللجوء في أبعاده الثقافية والاجتماعية سمة أردنية، منسجمة تماما مع خصال الأردنيين"، الذين بدأ عهدهم الحديث باللجوء مع الفلسطينيين، ليتواصل القادمون من جبهات مختلفة.
حرب الخليج :
حين نشبت حرب الخليج الثانية أدرك الأردنيون أن موجة لجوء واسعة ستشهدها بلادهم، التي حافظت على "توازن ديموغرافي" بين مكونيها الأساسيين، "الشرق أردني" و"الغرب أردني (الفلسطيني)"، وتمسكت بـ"حدٍ دنيّ" من "نزاعات الندرة"، التي فرضها فقر البلاد بالموارد، إلا أنها ظلت موئلا آمنا لقاطنيه.
استضاف الأردن، كنتيجة لحرب الخليج الثانية واحتلال العراق، قرابة 600 ألف لاجئ عراقي، وفق إحصائية أجرتها منظمة "فافو" النرويجية، وهي جهة مستقلة، ما أنشأ صيغا ثقافية واجتماعية جديدة في الأردن، دون أن تصارع الصيغ القائمة، المستمدة من بيئتين، أردنية مستقرة وفلسطينية مهاجرة.
يقول عميد كلية الآداب في الجامعة الهاشمية د.عبدالباسط الزيود، الذي ينتسب إلى قبيلة بني حسن أكثر القبائل الأردنية عدداً والأوسع انتشارا، إن "البنية الثقافية تتأثر وتؤثر بالمهاجرين، خاصة على المستويين الثقافي والاجتماعي، فالهجرات تحمل في ثناياها الأفكار والعادات والثقافات، وتأتي- أردنيا- في سياق مجتمع يقبل الآخر مع انفتاحه، وحرصه- أيضا- على التواصل مع الآخر، الأمر الذي من شأنه تسهيل اندماج الآخر والاندماج به".
يستبعد د. الزيود نمو "حالة صراعية" في الأردن على صعيد ثقافي- اجتماعي، ويؤكد: "الهوية الأردنية راسخة وثابتة، والنظام السياسي الأردني له طبيعة خاصة، تحول دون نمو شكل صراعي للهويات الثقافية والاجتماعية الوافدة مع نظيرتها الديموغرافية الأردنية".
ويرى د. الزيود أن "التأثير على الهوية الأردنية وارد، وهو يتضمن أبعادا إيجابية وأخرى سلبية، دون أن يشكل ذلك خطورة من نوع صراعي".
تنوع المكون الديموغرافي :
يتلمس زائر الأردن تنوع المكون الديموغرافي، وقدرة الأردنيين على التعايش مع هذا الواقع، الذي تفرض "قهريته" موجبات استيعابه في أنساق مقبولة أردنيا، ولعل موجات اللاجئين السوريين، التي زاد عددها عن 1.2 مليون لاجئ، تشكل دلالة على ما يمكن تسميته "تعايش الضرورة".
التذمر من اللجوء أردنيا يأتي من باب الضغط الاقتصادي، إلا أن الأمر "لا يزال بالإمكان تحمله اجتماعيا وثقافيا"، إذ يقول الكاتب الأردني ناهض حتر إن "بنية الأردن تنتفخ كالبالون، وبلغت لحظة انفجارية على الصعيد الاقتصادي".
ثم يفصل حتر بين "الاجتماعي والثقافي من جهة، وبين الاقتصادي من جهة أخرى"، فيقول: "الهجرات والأزمات المحيطة بالأردن تضغط البنى الاقتصادية، وتأتي كحالات جماعية مفاجئة وممولة من الخارج، الأمر الذي يحدث الفجوة السعرية التي تضر بالشعب الأردني وتتسبب بمشكلات معقدة ومتعددة، من دون أن يعني ذلك التأسيس لحالة صراعية اجتماعيا وثقافيا".
يستوعب الأردن- حاليا- نحو نصف عدد سكانه من اللاجئين، وفق تقديرات غير رسمية، فيما ينذر الإقليم بمزيد من المهاجرين، على الأقل من الجبهة الشمالية، حيث تشهد الأزمة السورية انغلاقا في أفق إنهاء الصراع الدائر.
ويتندر الأردنيون، على استيعاب المملكة لأكبر عدد من مخيمات اللجوء في العالم، بالحديث عن دخول "موسوعة غينتس للأرقام القياسية".
موسوعة غينتس :
ضاحكا يقول خالد كريشان، وهو ناشط اجتماعي، "على الأردنيين التحرك بجدية لدخول موسوعة غينتس بعدد مخيمات اللجوء في الأردن"، ويضيف: "أينما ذهبت ستجد لافتة كتب عليها مخيم كذا...".
ويرى كريشان "وجود نحو 18 مخيما للاجئين في الأردن يعتبر عددا غير مسبوق في المنطقة وربما العالم".
رسميا يوجد في الأردن 18 مخيما، 13 منها للاجئين الفلسطينيين، و5 للاجئين السوريين، فيما تتوزع تجمعات للاجئين السوريين غير رسمية في أنحاء متفرقة من البلاد، فضلا عن تحول إحياء كاملة في بعض مناطق العاصمة عمان إلى مناطق شبه مغلقة لساكنين من الجنسية العراقية.
وتظهر جولة سريعة، في أي من محافظات الأردن، حجم تواجد اللاجئين أو المهاجرين، إذ يمكن للزائر تلمس ذلك بسهولة من لافتات المحال التجارية، التي يحمل الكثير منها أسماء تجارية لها جذور في بلدان أصحابها الأصلية، وتوفر بيئات ومنتجات مماثلة.
فـ"بوظة بكداش" ظلت معلما من معالم الشام، وتجدها- الآن- في ارقى الأحياء التجارية للعاصمة الأردنية عمان، وكذلك "السمك المسقوف"، المنتج العراقي الأشهر على ضفاف نهر دجلة، يجده الزائر متوسطا شارع الجاردنز التجاري، وعلى مقربة منه "المسخن"، الأكلة الفلسطينية الأكثر شهرة، وفي مقابل هذا تجد "المنسف الأردني"، أحد معالم الكرم الأردني.
عدنان برية
2-5-2014
المصدر : صحيفة اليوم