بعد أن عرفنا في الآية
السابقة معاني عظيمة، من تعاظم وتعالي الجبار المتكبر عن صفات المخلوقين، من بيده
الملك والتصرف التام، وهو على شيء قدير، يرفع ويخفض يعطي ويمنع يعز ويذل؛ شرع
بعدها يفصل أحكام الملك وآثار القدرة، وما يترتب عليهما من غايات جليلة.
فقال سبحانه( الذي خلق
الموت والحياة ليبلوكم )، هنا لابد من استشعار عِظم قدرة الله سبحانه، إذ بعد
الإجمال والشمول في صفة الملك والقدرة، بدأ بالتفصيل وأعظم الأوجه التي تتجلى فيها
صفة القدرة هي صفة الخلق، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
لذلك استدل سبحانه على
المشركين بعجز آلهتهم عن الخلق وضعفها عن الإيجاد فقال( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا
تَذَكَّرُونَ )[1]، وقال
سبحانه( أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ )[2]،
وقال جل في علاه( أأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ )[3]،
وغيرها من الآيات.
وعن قتادة في قوله: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ
وَالْحَيَاةَ) قال: أذل الله ابن آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة ودار فناء،
وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء.[4]
ومعنى (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) خلق لكم
الحياة ليختبركم فيها وخلق الموت ليبعثكم ويجازيكم بأعمالكم.
خلق الحياة للامتحان، وخلق الموت للجزاء كما
قيل: لولا المحن لقدمنا مفاليس، وذلك أن الله تعالى، خلق الجنة. وخلق لها أهلاً،
وخلق النار وخلق لها أهلاً، وابتلاهم بالعمل والأمر والنهي، فيستوجبون بفعلهم
الثواب والعقاب. والابتلاء من الله تعالى، أن يظهر من العبد ما كان يعلم منه في
الغيب.
لماذا تقدم لفظ " الموت " على "
الحياة" على الرغم من أن الابتلاء في الأعمال يحصل في الحياة الدنيا والظاهر
السياق ذلك، فالجواب كما يلي:
1-
في التسلسل الزمني الموت يسبق الحياة، قال تعالى( كَيْفَ
تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )[5].
2-
الموت أعظم في بيان القدرة والملك فهو قهر عظيم
لكل حي و لا يخرج أحد من سلطان الموت مهما بلغ سلطانه في الدنيا و هو أهيب في
النفوس من ذكر الحياة.
3-
الموت هنا تقدم لأن الموت أشد على النفوس وأعظم
رهبة وأكثر زجراً، والمقام مقام وعظ وتذكير، فتقديمه أدعى للمبادرة بالأعمال
الصالحة، من ذكر وتقديم الحياة فتأمل.
و "
أحسن " تفضيل أي أحسن عملا من غيره فالأعمال الحسنة متفاوتة في الحسن إلى
أدناها[6]، ولم يقل سبحانه " أكثر " أو " أزيد"
للدلالة على أن ثواب الأعمال غير متعلق بالكثرة والعدد والصورة والهيئة، وحتى يتصف
العمل أنه " أحسن" وبالتالي مقبول لابد فيه من إخلاص واقتداء.
سُئل
الفضيل بن عياض عن قوله تعالى ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) فقال: هو أخلص العمل وأصوبه. قالوا:
يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال : إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل،
وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا وصوابا، فالخالص أن يكون
لله، والصواب أن يكون على السنة[7] .
والإخلاص: هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في
الطاعة، وأن يبتغى بهذا العمل وجه الله، بعيدا عن طلب الثناء والشهرة والمحمدة،
وأن يكون الله عز وجل الشاهد الوحيد على العمل وطلب الثواب منه.
قال تعالى( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ )[8]،
فالإخلاص طريق الأنبياء وأتباعهم، يقول سبحانه عن الخليل عليه السلام( قُلْ إِنَّ
صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَا
شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )[9].
وتجارة النيات مع أعظم التجارات، فهي تجارة
العلماء الفطناء الحكماء الأذكياء العقلاء، فكان سلفنا الصالح يتفقدون نواياهم بل
يتعلمون الإخلاص، يقول يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل[10].
وقد حرص السلف على إخفاء العمل الصالح إلا أن
يكون في إظهاره مصلحة، فهذا داود بن أبي هند رحمه الله صام عشرين سنة، ولم يعلم به
أهله، كان يأخذ غذاءه ويخرج إلى السوق، فيتصدق به في الطريق، فأهل السوق يظنون أنه
قد أكل في البيت، وأهل البيت يظنون أنه قد أكل في السوق.
ورب عمل عظيم صغرته النية، وعمل يسير عظمته
النية، بالنية الصالحة تتحول العادة إلى عبادة، وبالنية الفاسدة تتحول العبادة
العظيمة إلى هباء منثورا، يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: إني أحتسب عند الله قومتي
وقعدتي.
يقول ابن القيم: العمل من غير إخلاص ولا اقتداء
كالمسافر يملئ جرابه رملا يثقله ولا ينفعه.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه:
اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا.
وقد نستغرب لو عرفنا بأن أسباب النصر والتمكين
والعز والرفعة لهذه الأمة يبدأ من الإخلاص، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث
الصحيح(هَلْ تُنصَرُون إِلَّا بِضُعفائِكُمْ؟ بِدعْوتِهمْ وإِخْلاصِهمْ )[11].
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح( بَشِّرْ
هذه الأُمةَ بِالسَّناءِ، والدِّينِ، والرِّفعةِ والنَّصرِ، و التَّمكينِ في
الأرضِ، فمَنْ عَمِلَ مِنهمْ عَمَلَ الآخرةِ للدُّنْيا، لَمْ يَكُنْ له في الآخرةِ
من نَصيبٍ )[12].
ولابد أن تكون أعمالنا موافقة لهدي النبي عليه
الصلاة والسلام حتى تقبل، قال عليه الصلاة والسلام( من عملَ عملا ليسَ عليهِ
أمرُنا فهو ردٌّ )[13]،
أي مردود على صاحبه.
يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: اقْتِصَادٌ فِي
سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنَ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ إِنَّكَ إِنْ تَتَّبِعْ خَيْرٌ مِنْ
أَنْ تَبْتَدِعَ وَلَنْ تُخْطِئَ الطَّرِيقَ مَا اتَّبَعْتَ الأَثَر.[14]
وقوله: ( وهو العزيز ) يقول: وهو القوي الشديد
انتقامه ممن عصاه، وخالف أمره ( الغفور ) ذنوب من أناب إليه وتاب من ذنوبه.[15]
في سورة الإنسان قال تعالى( إِنَّا خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا
بَصِيرًا )[16]، فجاءت
" نبتليه" بالتثقيل، بينما في الآية التي معنا " لنبلوكم "
بالتخفيف، والجواب: لأن نهاية الآية " العزيز الغفور " والمغفرة فيها
رحمة بالتالي خفة، فناسب أن تكون مخففة، بالإصافة إلى أن أسباب الابتلاء ذكرها
ربنا مفصلة في سورة الإنسان فناسب التثقيل، ولم تذكر إلا مجملة في تبارك فتأمل.
نسأل الله أن يجعل أعمالنا كلها صالحة، ولوجهه
خالصة وأن لا يجعل لأحد فيها شيئا.
2/ رمضان/ 1434هـ
11/7/2013م
حقوق
النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر
المصدر"
[1] (النحل:17).
[2] (الأعراف:191).
[3] (الواقعة:59).
[4] تفسير الطبري.
[5] (البقرة:28).
[6] التنوير والتحرير.
[7] مفتاح دار السعادة.
[8] (البينة:5).
[9] (الأنعام:162-163).
[10] حلية الأولياء.
[11] صحيح الجامع برقم 7034.
[12] صحيح الجامع برقم 2825.
[13] صحيح مسلم.
[14] السنة للمروزي.
[15] تفسير الطبري.
[16] (الإنسان:2).