أما بعد ..
فهذه هي الكلمة الشهرية
الثالثة بعد افتتاح الموقع وهي خاصة بشهر ربيع الأول ، وما ينبغي للمسلم أن يعلمه
عن المشروع فيه ،وما أحدث من البدع فيه ، وذلك بعد التعريف به على وجه الإيجاز .
أولاً: التعريف به :
هو الشهر الثالث من أشهر
السنة الهجرية ، واسمه ربيع الأول ، ويقال الأول استدراكاً من ربيع الثاني وهو
الشهر الذي يليه .
قال الزبيدي: " الربيع جزء من أجزاء
السنة وهو عند العرب ربيعان ، ربيع الشهور، وربيع الأزمنة ، فربيع الشهور شهران
بعد صفر سميا بذلك لأنهما حُدّا في هذا الزمان فلزمهما في غيره ،ولا يقال فيهما
إلا شهر ربيع الأول ، وشهر ربيع الآخر ".تاج العروس(21/19).
وسميا بربيع لأنهما
يكونان في وقت الربيع .
قال أبو حنيفة:"يسمى قسما الشتاء
ربيعين ،فالأول منهما ربيع الماء والأمطار، والثاني ربيع النبات، لأن فيه ينتهي
النبات منتهاه" .قال:"والشتاء كله ربيع عند العرب لأجل الندى ".تاج العروس(21/19).
ثانياً: ما يشرع فيه من
الأعمال :
لا أعلم أن هذا الشهر خص
بعمل غير ما هو مشروع على سبيل العموم في سائر أشهر السنة ، وعلى هذا فتخصيص هذا
الشهر بعبادة من صلاة أو صوم أو ذبح أو نذور ، من البدع المحدثة لكن من عمل فيه
بعمل لا على وجه التخصيص ولكن بحكم الموافقة أو الفراغ كمن تجددت له نعمة في هذا
الشهر أو غيره فشكر الله بالمبادرة إلى الطاعة من زيادة صلاة أو صوم وغيرها من
العبادات فلا حرج ،لأن قصده بهذه العبادة ليس هو مجرد هذا الشهر ، وإنما لمقصد آخر
وهو الشكر على النعمة ، أو الفراغ الذي حصل له في هذا الشهر فعمل بحسب فراغه ،
وضابط هذا أنه لو حصل له هذا الفراغ ، أو تجددت له نعمة في شهر آخر لفعل ما فعل في
هذا الشهر .
ما أحدث فيه من البدع:
من البدع المحدثة في هذا
الشهر بدعة الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى وجه الخصوص في اليوم
الثاني عشر من هذا الشهر ،وذلك بدعوى إظهار الفرح بمولد النبي صلى الله عليه وسلم
والاحتفال بمولده وأن هذا من لوازم محبته،بل زعم بعضهم أن عدم الاحتفال بمولده من
الجفاء ،والنقص في محبته .
والصواب أن الاحتفال
بمولد النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول ، أو في غيره
من الأيام سواء كان في ربيع أو في غيره من الأشهر من البدع المحدثة.
ويدل على ذلك عدة أمور:
أولاً: عموم الأدلة الدالة على
وجوب الإتباع والتحذير من الابتداع ، ومن ذلك:
أ- قوله
تعالى : ] فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [(النور: ٦٣).
والاحتفال
بالمولد ليس من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ،فلم يأمر به أمر وجوبٍ ولا استحباب ، ولا رغّب أمته فيه بوجه من
الوجوه، ولم ينقل عنه في هذا حديث صحيح ،بل ولا ضعيف؛ فيكون الاحتفال بالمولد من
مخالفة أمره ، وهو داخل في الوعيد الذي حذر الله منه في هذه الآية وهو إصابة
المخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بفتنة أو عذاب أليم .
قال ابن كثير في تفسير
قوله تعالى] أن تصيبهم فتنة ] "أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة "تفسير ابن كثير (ص146).
ب- قوله تعالى : ] اليوم أكملت لكم دينكم
وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا [ (سورة المائدة:3).
قال ابن عباس رضي الله
عنه في تفسير هذه الآية:"أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان
فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا ، وقد أتمه فلا ينقصه أبدا، وقد رضيه فلا يسخطه أبدا). تفسير ابن كثير: (2/12).
والاحتفال بالمولد ليس من
الدين الذي شرعه الله لنا ،بل أتم الله الدين وليس في أدلة الكتاب والسنة دليل يدل
عليه بوجه من الوجوه ؛فدل على أنه من البدع المحدثة ،ومحدثوه يلزمهم أحد أمرين:
1- إما أن يقولوا هو من
الدين المشروع الذي أتمه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فهم مطالبون بالدليل الدال
عليه.
2- وإما أن يعترفوا بأن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرعه مع كونه من الدين فيلزمهم الطعن في صحة الآية
،وأن الدين لم يكمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ،وقاموا هم بإكماله بالاحتفال
بالمولد .
جـ- قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث
عائشة رضي الله عنها : »إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض « . صحيح البخاري (3 / 241) ،
صحيح مسلم (5 / 132).
ومما
لا نزاع فيه بين العلماء العارفين بسنته أن الاحتفال بالمولد أمر محدث لم يكن في
عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا في عهد أصحابه ، بل ولا في القرون الثلاثة
المفضلة،بل ولا يعرف في الأمة حتى أحدثه العبيديون المنتسبون كذباً وزوراً لفاطمة
رضي الله عنها وأنهم من نسلها ، والذين أسسوا الدولة الفاطمية في مصر وأحدثوا
الاحتفال بالمولد في أواخر القرن الرابع الهجري على ما نقل ذلك المقريزي في (خططه)
أن الخلفاء الفاطميين قد اتخذوا أعياداً على مدار السنة، وهي تربو على عشرين عيداً
،وذكر من هذه الأعياد المحدثة الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، ومولد علي بن أبي طالب
، ومولد الحسن ،و الحسين ، وفاطمة رضي الله عنهم .انظر: الخطط للمقريزي:
(1/490).
فإذا
تقرر أن المولد بدعة محدثة بهذا ،فهي مردودة بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم فلا
أجر ولا ثواب عليها ، بل إن أصحابها معرضون للعقوبة ،التي دلت عليها النصوص في حق
المحدثين للبدع المخالفين لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أن الاحتفال بالمولد
ودعوى أنه من الدين ، وأنه من لوازم محبة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ، إما
أن يكون علمه الصحابة ، والتابعون، وأهل القرون المفضلة ، أو جهلوه ، فإن قيل
جهلوه فهذا طعن فيهم ، وتنقص لمقامهم في العلم والفقه ، وأنه خفي عليهم من الأدلة
والفقه بها ما عرف به المتأخرون أن المولد من الدين ، ومن لوازم محبة سيد المرسلين
صلى الله عليه وسلم.
وإن قيل إنهم علموه ، ثم
قد ثبت أنهم لم يعملوا به فهذا طعن في إتباعهم ، وتفضّل عليهم في العمل .وعلى كل
حال فمحدثوا المولد إما أن يدّعوا تفضّلهم على الصحابة والسلف في العلم أو تفضلهم
عليهم في العمل ، وكلاهما ضلال بيّن مخالف لما دلت عليه النصوص من فضل الصحابة ،
وأصحاب القرون المفضلة على من بعدهم.
ثالثاً: أن إحداث العبيديين
الفاطميين للمولد في أواخر القرن الرابع لو كان من الهدى للزم من ذلك خذلان الله
لخيار الأمة من الصحابة والتابعين وتابعييهم ، وأئمة الدين الذين قام بهم الدين
وقاموا به ؛حيث لم يهديهم للعلم والعمل به مع قوله تعالى: ] والذين جاهدوا فينا
لنهدينهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين [ (العنكبوت: ٦٩) ثم هدى له العبيديين الباطنيين بعد أن مضت قرون الأمة
الفاضلة ، ومات أهلها وهم لم يعرفوا المولد ؛ فنال شرف العلم والعمل به العبيديون
الباطنيون ، بل لازم هذا أحقية العبيديين الباطنيين بالدين وبطلان ما عليه سلف
الأمة أجمعين ، وهذا غاية البطلان الذي لا يمكن أن يدعيه مسلم .
رابعاً: أن الاحتفال بالمولد
أنكره العلماء المحققون ،وقطعوا ببدعيته ،وشددوا في ذلك فالواجب اتباع سبيلهم كما
أرشد الله لذلك في قوله: ] ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين
نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا[ (النساء: 115).
والعلماء المتبعون هم
المؤمنون الذين أوصى الله باتباع سبيلهم وحذر من مخالفته وتوعد عليه.
وها هي ذي بعض أقوال
العلماء في ذلك:
قال شيخ الإسلام ابن
تيمية :"وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليال شهر ربيع
الأول التي يقال إنها ليلة الموالد .. فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف،ولم
يفعلوه".مجموع الفتاوى (25/298).
وقال الشاطبي عند عده
للبدع التي تضاهي الشرعية :"ومنها التزام الكيفيات والهيئات المعينة ،كالذكر بهيئة
الاجتماع على صوت واحد واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيداً
،وما أشبه ذلك".الاعتصام للشاطبي (1/39).
وقال الفاكهاني عندما سئل
عن الاحتفال بالمولد:"لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة ،ولا ينقل عمله
عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين ،المتمسكون بآثار المتقدمين ،بل
هو بدعة ، أحدثها البطالون ،وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون" . المورد في عمل المولد
للفاكهاني(20-22).
وقال ابن حجر:"أصل عمل المولد
بدعة لم ينقل عن أحد من السلف الصالح من القرون المفضلة ".الحاوي للفتاوي للسيوطي
(1/196).
وقال السخاوي:"عمل المولد الشريف
لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة ، وإنما حدث بعد". "المورد الروي في
المولد النبوي" لملا علي قارى (ص12).
وقال
ابن الحاج:"فإن خلا أي عمل المولد النبوي منه أي -من السماع-وعمل طعاما
فقط، ونوى به المولد ، ودعى إليه الإخوان ، وسلم من كل ما تقدم ذكره-أي من
المفاسد- فهو بدعة بنفس نيته فقط إذ أن ذاك زيادة في الدين ليس من عمل السلف
الماضيين واتباع السلف أولى بل أوجب من أن يزيد نية مخالفة لما كانوا عليه " .المدخل لابن الحاج
(2/11-12).وقال الشيخ عبدالعزيز بن باز:"بعد أن ذكر النصوص
في التحذير من البدع : وبذلك يتضح لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق وإنصاف في
طلبه أن الاحتفال بالموالد ليس من دين الإسلام بل هو من البدع المحدثات التي أمر
الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم بتركها والحذر منها.
ولا
ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس في سائر الأقطار فإن الحق لا يعرف
بكثرة الفاعلين ، وإنما يعرف بالأدلة الشرعية "مجموع فتاوى سماحة الشيخ
ابن باز (1183).
خامساً: أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم أصل
عظيم من أصول هذا الدين ، ولا يتحقق الإيمان إلا بها ، كما جاء في الصحيحين من
حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال » : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده
والناس أجمعين«. (صحيح البخاري (1 / 10)) ، (صحيح مسلم (1 / 49)).
وحقيقة محبة النبي صلى الله عليه وسلم تكون
بامتثال أمره ، والانتهاء عن نهيه لا بارتكاب ما نهى عنه بدعوى محبته ،قال تعالى: ] قل إن كنتم تحبون الله
فاتبعوني يحببكم الله[ (آل عمران: ٣١). فبين الله تعالى أن علامة محبته طاعة رسوله صلى
الله عليه وسلم ، واتباعه ، وكذا محبة النبي صلى
الله عليه وسلم ؛ هذا هو برهانها وهو اتباع هديه ولزوم سنته .
قال الشافعي:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه
... هذا لعمري في القياس بديـع
لو كان حبك صادقا لأطعته
... إن المحـب لمن يحب مطيـع
سادساً: أن غاية ما يستدل به
المحدثون للمولد هو الاستحسان العقلي المجرد، ودعوى أن الاحتفال بالمولد من لوازم
محبة النبي صلى الله عليه وسلم ،وهذا باب واسع في الدعاوى وفتح لباب البدع على
مصراعيه لما تستحسنه العقول ، وعلى هذا فيصح لمدع آخر أن يحتفل بنصرة النبي صلى الله عليه وسلم في
يوم بدر ، ويدعي آخر الاحتفال بنصرته في يوم أحد ،ويدعي غيره الاحتفال بنصرته يوم
الخندق، أو فتح مكة، أو حنين.
بل يدعي مدع أن الأولى
الاحتفال بيوم هجرته، ويستدرك آخر فيقول بل الأولى الاحتفال بيوم حجته ، واليوم
الذي شهدت الأمة له بالبلاغ في أعظم جمع لها ،وهكذا فلن ينتهي استحسان العقول لحد
، فمن الذي يُتبع ، وبأي عقل يقاس الدين ؛فإذا تنازع المحسنون بعقولهم علموا أنه
لا فصل لهذا النزاع إلا بالرجوع للسنة ، والوقوف عندها .
وبهذا يتبين تحريم
الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم بأي وجه من الوجوه سواء كان على وجه الإنفراد ،
أو الاجتماع وما يصحب ذلك من قراءة القرآن ، أو إلقاء القصائد في مدحه ،أو صناعة
الطعام، وأشد من هذا ما يصحب هذه الاحتفالات من رقص وغناء ، وفجور ، واختلاط بين
الرجال والنساء، فكل هذا محرم ، بل في بعض هذه الاحتفالات جمع بين البدعة والمعصية
؛ حتى أصبحت بعض احتفالات المولد في بعض البلدان الإسلامية وسيلة لبعض أصحاب
الشهوات في ارتكاب المحرمات ،باسم الاحتفال بالمولد ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا والله تعالى أعلم
،وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر : الموقع الرسمي
للشيخ إبراهيم الرحيلي حفظه الله