العراق وأزمة الهويات المستحدثة - ياسر المندلاوي

بواسطة قراءة 2525
العراق وأزمة الهويات المستحدثة - ياسر المندلاوي
العراق وأزمة الهويات المستحدثة - ياسر المندلاوي

الهوية في تعريف متداول لا يخلو من ثغرات ، هي السمات المشتركة التي تميز مجموعة بشرية معينة عن غيرها.

إن قصور هذا التعريف يكمن في إهماله الفارق بين الجوهري والعرضي، بين الخصائص والصفات، كما وإنه يتجاوز حقيقة إن السمات المشتركة المميزة للمجموعة البشرية لا تحمل مدلولات هوياتية ما لم يرافقها الوعي بهذه السمات أولا، وإعتمادها قيمة تمايزية إزاء المجموعات الأخرى ثانيا. وحسبنا القول أيضا، إن مستويات التطور في المجالات الإجتماعية والسياسية والثقافية، تلعب دورا حاسما في تشكيل الوعي بالسمات المشتركة، ومنح قيمة تمايزية لمشتركات بعينها دون غيرها، وكلما تقدم المجتمع في المجالات المذكورة، إغتنت الهوية بسمات مشتركة أكثر سعة ورحابة تلبي مصلحة المجموعة البشرية في الإرتقاء والتطور، وعليه فإن وعي الهوية في حقيقته، هو الوعي بمصلحة المجموعة البشرية في مختلف جوانب الحياة. ففي المجتمع القبلي، على سبيل المثال، تعتمد القبائل هوية قبلية خاصة بكل منها رغم إشتراكها، في غالب الأحيان، بسمات عديدة مثل لون البشرة، اللغة، المعتقدات وغيرها.

إن حدود الهوية في المجتمع القبلي، هي ذاتها حدود مصلحة القبيلة في تميزها عن غيرها من القبائل في ظرف تأريخي ملموس ، فإن عجزت القبيلة عن إدراك سمات موضوعية تميزها عن القبائل الأخرى، تستحدث سمات خاصة بالقبيلة من صنع يدها، ولكن القبيلة ذاتها، في مرحلة إجتماعية أكثر تطورا، وعندما تقتضي مصلحتها التوحد في كيان إجتماعي أكثر تعقيدا من المجتمع القبلي، تلوذ بالسمات التي تجمعها مع القبائل الأخرى في هوية جديدة تلبي مستلزمات البناء الإجتماعي الجديد، وهكذا تتدرج الهوية صعودا مع تطور المجتمع، وتؤشر في الوقت ذاته مستويات هذا التطور. وبناء على ما سبق نبني بأن الإنتقال من الهوية القبلية أو الطائفية أو غيرها من الهويات البدائية إلى الهوية الوطنية والقومية والإنسانية، إنما هو إنتقال إجتماعي وسياسي وثقافي يجد تعبيره في وعي الهوية التي تستجيب لمصلحة المجموعة البشرية في التحول من وضع إجتماعي أدنى إلى ما هو أرقى، وذلك عبر تفعيل سمات مشتركة تتسم بالرحابة المستوعبة للمجموعة الأثنوإجتماعية لتكريس وحدتها (أو التمهيد لها) وتمايزها في آن واحد، إستجابة لنداء مصلحتها في التطور. وبالمقابل فإن المناوئين لتطور المجموعة الأثنوإجتماعية، المحليين منهم والخارجيين، يحاولون تكريس بقاء الهويات البدائية، أو إحياءها في حال كانت المجموعة البشرية قد تجاوزتها، للنكوص بالمجموعة البشرية عن أهدافها خدمة لأهداف المناوئين.

ولنا في الإستهدافات الراهنة للهوية العراقية ما يشبه مكثف تحديات الهوية حسب بيان كيفياتها كما في أعلاه، ولا سيما لجهة الوسائل المعتمدة في النكوص بالهوية العراقية إلى هويات أولية تفتقر إلى المقومات الواقعية للتأسيس، إما بعلة تجاوز المجتمع العراقي لهذه المقومات أو بعلة إنعدامها منذ مبتدأ العراق. وحيث الحالة على وصف التوصيف الذي أشرنا إليه، لم يبق أمام المناوئين لهوية العراق الوطنية والقومية، سوى الركون إلى وسائل قسرية لإستحضار أو إستحداث مقومات الهوية الأولية في نسختها الطائفية المستدعية للتناحر عوض التشارك والتمايز( كما هي وظيفة الهوية في ظروف تطابقها مع واقع حال المجموعة البشرية).
إن الخطوة الأساسية بإتجاه نفي الهوية العراقية إبتدأت مع محاولات تشويه الوعي العراقي بالهوية، وذلك، من جهة أولى عبر الخلط المتعمد بين المفاهيم ليتطابق مفهوم (الأمة) مع مفهوم (القومية) ومع مفهوم (الشعب)، في حين ينبغي التفريق بينها لبيان السمات الرئيسية لكل من هذه المفاهيم ودلالاتها المختلفة، لا إعمال التطابق بينها كما يفعل الفاعلون، ومن جهة أخرى إستحداث تقسيمات هجينة سميت قسرا بمكونات الشعب العراقي وتقوم على فكرة رفع المعتقدات المذهبية إلى مرتبة السمات القومية. ومن نتائج هذا الإستحداث، الثلاثية الهجينة (السني – الشيعي – الكردي)، وهذه الثلاثية تستهدف إلغاء الهوية الوطنية الموحدة للعراقين مثلما تستهدف نسف الهوية القومية للعراق، بلحاظ ترابط الهويتين الوطنية والقومية ، الذي إستعصى لغاية اللحظة على الفكاك رغم المحاولات الدؤوبة لجعله (أي الترابط ) في خبر كان.

وليس من قبيل الصدفة إقتران شيوع إصطلاح (المكونات الثلاثة) مع حملة منظمة لفصل العراق عن محيطه العربي تمهيدا لإستئصال هويته القومية بدعوى تعارضها مع الهوية الوطنية للعراق، بينما الهدف الحقيقي هو إستئصال الهويتين معا كونهما يشكلان حائلا يحول دون الإنحطاط بالهوية العراقية إلى مستنقع الهويات البدائية المتعارضة مع متطلبات النهوض الوطني في المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية. والغريب في هذا الأمر أن يرى البعض بمجاهرة الأغلبية العربية في العراق بإنتمائه القومي طعنا بالوطنية العراقية وإضرارا بالاثنيات غير العربية، بينما لا يجد بأسا في مغالاة هذه الأخيرة في التعبير عن نفسها قوميا في كل وقت وفي كل حين.

ولهذا السبب نستطيع الإستنتاج بأن الإشارة الخجولة في الدستور العراقي إلى أن الشعب العربي في العراق جزء من الأمة العربية، هي في حقيقتها إشارة إنكارية توحي إلى هوية مغايرة لهوية العراق، فضلا عن إنها توحي بأن عرب العراق هم أقلية قومية في بلد غير عربي. وفي هذا السياق نقرأ جميع محاولات إستهداف الهوية العراقية في بعديها الوطني والقومي قراءة واحدة، فالدعوة إلى تقسيم العراق إلى أقاليم، وتقسيم الشعب إلى مكونات (سني – شيعي – كردي)، ورد مصائب الإحتلال والطائفية إلى كاهل الإنتماء العربي للعراق، وإستهداف الوجود الفلسطيني في العراق (وهو إستهداف للبعد القومي للقضية الفلسطينية في الوجدان العراقي رغم الإدعاءات المخالفة لهذه الحقيقة)، إنما تجتمع على هدف واحد هو تسويق هويات بديلة لهوية العراق وطنيا وقوميا.

وهنا يكمن مأزق هذه البدائل وأزمتها لأنها أسست على مقتضيات مصلحة غير عراقية، وحالما تأكد تعارض الهويات البديلة مع المصلحة الوطنية أضحى واضحا للجميع بأن تشكيل الهوية لا يخضع لإرادة سياسية فوقية لا تلبي شروط القراءة الصحيحة للسمات الهوياتية بمفاعيلها الواقعية المتناغمة مع مستويات التطور الإجتماعي والثقافي والسياسي في العراق. إذ بات جليا للعيان بأن وعي العراقيين لهويتهم الوطنية والقومية إنما يجسد وعيهم بالمصاح المشتركة وسعيهم المشترك لبلوغها.  

بينما الهويات البديلة المقترحة وقعت في مقتل معارضتها الحتمية لهذه المصالح، وفشلت وستفشل بدرجة أكبر في أن تكون هوية بالمعنى الذي نذهب إليه، لأنها تبنى على سمات مشتركة غير هوياتية هي سمات عصبيات غابرة ليس لها أن تنتج سوى الخراب والدمار، وهذه وحدها تكفي لإنصراف العراقيين عنها لصالح الإحتفاظ بهويتهم رغم هول التحديات.

2/1/2007