في مثل هذه الأيام اعتاد الكثير من المسلمين والعرب استحضار نكبة عام " 48 " التي أصبحت رمزا لمحنة شعب بأكمله ، وكل يستحضرها على طريقته فالبعض بالمهرجانات وتارة بالفعاليات وغيرهم بالمعارض التراثية وهكذا ، والتي قد لا تخلو في غالبيتها من أمور معتادة بل وفي كثير من الأحيان مخالفات شرعية تنعكس بشكل سلبي على حقيقة هذا اليوم وما حل بنا من نكبة وفاجعة حقيقية .
حيث تم الإعلان عن قيام الدولة اليهودية مباشرة بعد لحظات من انتهاء الانتداب البريطاني لأرضنا الحبيبة فلسطين ، بعد أن قرأ المجرم المعتدي ديفيد بن غوريون ليلة الجمعة الموافق 15/5/1948 ما سميت لديهم " بوثيقة الاستقلال " وتم الإعلان فيها رسميا عن دولتهم المزعومة في مدينة تل أبيب المحتلة على ساحل يافا .
ليعلن الفلسطينيون يوم الجمعة الموافق 15/5/1948 عن نكبتهم ، بعد أن استولت العصابات اليهودية على قرابة ( 77% ) من أرضنا أي ما يعادل ( 660 قرية ومدينة ) وتشريد أكثر من ( 750000 فلسطيني ) لتبدأ رحلة جديدة من الشتات والغربة لا زلنا نعيش فصولها بعد إحدى وستين عاما .
هذا القرار لم يكن ليصدر بشكل عبثي لولا وجود وعود لليهود بإنشاء وطن يهودي لهم ، وصدور قرار التقسيم من قبل الأمم المتحدة رقم ( 181 ) عام ( 1947 ) وتنفيذ المحتل البريطاني ومباركة أميركا وروسيا لذلك مباشرة ، ولذر الرماد بالعيون وإتمام هذا المسلسل الإجرامي الآثم صدر قرار الأمم المتحدة الشهير ( 194 ) القاضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم ، ولم يتحقق أو ينفذ لحد الآن !!، ولن ننسى الضعف والهوان الذي كانت تمر به الأمة الإسلامية والعربية في تلك الفترة والذي ساهم بشكل واضح في احتلال اليهود لبلادنا المقدسة .
إنـي تـذكرت والذكـرى مـؤرقـة مجـدا تلـيدا بأيدينا أضعـنـاه
ويح العروبة كان الكون مسرحها فأصبحت تتوارى في زواياه
أنى اتـجهت إلى الإسلام فـي بـلد تجده كالطير مقصوصا جناحاه
كـم صرّفـتـنا يــدٌ كنـا نُصرّفـهـا وبات يحكمـنـا شـعب ملـكـنـاه
تتمة الفصول والمراحل اللاحقة من شتات ولجوء وتهجير ومعاناة بات الكل يعرفها ، لكن الذي قد يخفى على الكثير أن جزءا وقلة قليلة من هؤلاء الذين تركوا أرضهم وقراهم ومساكنهم يقدر عددهم بأربعة آلاف لاجئ فلسطيني نزح غالبيتهم من قرى مثلث الكرمل ( إجزم وجبع وعين غزال ) التابعة لقضاء حيفا شمال فلسطين واستقروا في العراق ، هذه القرى التي سطرت أروع البطولات بوجه الاحتلال اليهودي حتى أن قرية إجزم عندما سقطت بعد شهرين من إعلان الهدنة أرسل اليهود بتقريرهم العسكري القائل " لقد أسقطنا الحمامة وكسرنا جناحيها " إشارة إلى قريتي جبع وعين غزال ، وكانت تسمى تلك القرى بمثلث الرعب .
ونحن نعيش في هذه الأيام ونستذكر النكبة الأم لابد من الوقوف ولو لبعض الشيء مع النكبات المستمرة التي يعيشها الآن الفلسطينيون في العراق من عدة نواحي والتي فاقت كل التصورات :
نكبة سياسية :
للأسف من قبل والآن بدأت تتنامى ظاهرة الإقصاء السياسي والتهميش الإداري وتكميم الأفواه لفلسطينيي العراق ، والذي عاش في العراق ونشأ فيها يجد ذلك ظاهرا ، مع أنه لدينا العديد من الكفاءات وفي كل المجالات إلا أن الإصرار على مسك زمام الأمور وإدارة الجالية من قبل أناس إما تنظيميا أو فصائليا أو حزبيا لا صلة لهم ولا علاقة بفلسطينيي العراق ولا يحملون همومهم ، فمن الذي يتكلم باسمهم الآن ومن يملك القرار بحقهم في الغالب إلا من رحم الله وقليل ما هم أناس بعيدون كل البعد عن فلسطينيي العراق ، وأنا بنظري أعتبر هذا نكبة سياسية حقيقية نعاني منها منذ زمن بعيد وهي أحد أسباب ضياع حقوقنا ولا أريد التفصيل في ذلك فاللبيب تكفيه الإشارة .
نكبة اجتماعية :
عندما تهجر قرابة ( 4000 فلسطيني ) من قراهم واضطروا للعيش في العراق ، بدأ الفلسطيني مكرها على ذلك التأقلم مع البيئة الجديدة والتعايش مع أهلها ، لكن حافظت معظم العوائل على أصولها وروابطها الأسرية إلا أن ما يحدث الآن مختلف تماما حيث كل عائلة أو أسرة نشأت وعاشت في العراق الآن تقسمت وانشطرت بحسب مكان سكناها إلى أكثر من خمسة أماكن بل البعض قد يصل إلى أكثر من ذلك ، وهذه في الحقيقة نكبة ما بعدها من نكبة كون تأثير ذلك مستقبلا على الأجيال القادمة اجتماعيا وأسريا وشيئا فشيئا تظهر الآثار .
نكبة دينية :
يعتبر المجتمع الفلسطيني في العراق من المجتمعات المحافظة دينيا ونسبة كبيرة يحافظون على الفرائض بل نسبة المهتمين والملتزمين دينيا تعتبر جيدة ، وعموم الفلسطينيين في العراق يحبون الدين وليس لديهم أي انحرافات كبيرة تذكر في الغالب وينصاعون لأوامر الله ويقبلون على الله ، إلا أن هذه القضية بدأت تضعف وتفتر شيئا فشيئا بسبب كثرة التهجير والبعد عن الناصح والأخ المحب ، والدخول في مجتمعات غريبة وانعكاس ذلك سلبيا على الثوابت الدينية والمبادئ ، فحصل هنالك فتور لأن الشيطان يأكل من الغنم القاصية وفي الحقيقة هذه من أعظم النكبات فما بعد نكبة الدين والتراجع في تقوى الله وطاعته من نكبة بل والوقوع في بعض المعاصي ممن كان بعيدا عنها .
نكبة اقتصادية :
قرابة ( 25000 فلسطيني ) كانوا متداخلين مع المجتمع العراقي في جميع مجالات الحياة ، وإلى حد ما هنالك استقرار اقتصادي من حيث الوظيفة والعمل والمشاريع والتجارة وغيرها ، إلا أن هذا الأمر بدأ بالتراجع الملحوظ بعد عام 2003 حيث أكثر من ثلثي الفلسطينيين غادروا البلاد مضطرين لذلك بعد استهدافهم من قبل الميليشيات الطائفية ، ونسبة كبيرة منهم تركوا أعمالهم والعديد تركوا حتى بيوتهم ومصالحهم ، وكل هذه التنقلات كلفت مبالغ مالية طائلة للوصول إلى السويد أو قبرص أو الهند أ ماليزيا أو غيرها من الدول ، والذي لا يملك تلك المبالغ استدان وعدد غير قليل الآن مثقل بالديون ، وعوائل أخرى بمجرد تمكنها من تكاليف الوصول إلى الصحراء فعلت ذلك ، كل هذا أدى لتراجع الوضع الاقتصادي والمعاشي لمعظم الفلسطينيين وهذه نكبة أيضا .
نكبة ثقافية :
كان المجتمع الفلسطيني في العراق مجتمعا محافظا مثقفا إلى حد ما وقد اكتسبنا العديد من صفات الكرم والشهامة والنخوة العربية من أهلنا وأحبابنا العراقيين الأصلاء ، إلا أن الأمر تغير والثقافة تبدلت لكثير عندما اندمجوا في بيئات غريبة وثقافات جديدة وأجواء مستهجنة ، وبدأنا نسمع بحالات جديدة لم نكن نسمع بها في السابق ، وهذه نكبة ما بعدها من نكبة .
نكبة في عدم الاستقرار :
كل شعب أو أمة أو فئة لديهم من الاستقرار والمرجعية ما يكون لهم مأمنا ولو نسبيا ، حتى الدول التي دخلت في حروب طاحنة لسنوات وأخرى تعرضت للاقتتال الطائفي والحروب الأهلية لكن سرعان ما انتهت وحصل شيء من الاستقرار ، إلا فلسطينيي العراق بعد عام 2003 لم يجدوا طعم الأمن ولا الأمان ولا الاستقرار ، والنبي عليه الصلاة والسلام ربط جزء من السعادة الدنيوية بالمكان الآمن المستقر فقال ( من أصبح منكم معافى في أهله آمنا في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ) فمن منا له سرب آمن فيه مستقر ؟! فقرابة 3000 فلسطيني يفترشون التراب في الصحراء في ثلاث مخيمات ينتظرون دول أوربية أو أجنبية تستضيفهم ، وهنالك أعداد أخرى يعانون من المستقبل المجهول كالبرازيل وتشيلي ، وقرابة 2000 فلسطيني في قبرص لا يعرفون مصيرهم وأعداد من الفلسطينيين تم رفض لجوئهم في السويد ، بل من تبقى في العراق أيضا هنالك هاجس وخوف من المستقبل القادم ، وبعض العوائل في ماليزيا أيضا يعانون من هذه النكبة وبعض الدول العربية التي تفرض قيود ومحددات قاسية على الفلسطينيين القادمين من العراق .
نكبة تعليمية :
كثير من الفلسطينيين تركوا مدارسهم وكلياتهم لعدة سنوات بسبب الأحداث التي مروا بها واضطرارهم مغادرة البلاد تحت ظروف قاهرة أجبرتهم على ذلك ، كل هذا أدى لتراجع وزيادة نسبة غير المتعلمين وانخفاض نسبة الكفاءات ، وهذه نكبة فبعد أن كان فلسطينيي العراق يضرب بهم المثل في تعدد الكفاءات وكثرتها إلا أن الأمر تراجع بسبب ما حصل لهم من نكبات في السنوات الست المنصرمة .
نكبة صحية :
فكم أصبح اليوم لدينا من الجرحى والمعاقين الذين هم عالة على عوائلهم ، وارتفاع نسبة الوفيات لدى فئات عمرية صغيرة - مع أننا نؤمن بقضاء الله وقدره إلا أن الأسباب لها وجود - ، وزيادة عدد المرضى وظهور حالات مرضية مزمنة ، مع القصور الواضح بحق الكثير من الحالات وهذه أيضا نكبة تضاف إلى النكبات الأخرى .
فهذه وقفات عابرة ونماذج مقتضبة من النكبات التي حلت بفلسطينيي العراق والقضية لم تنته بل هي في بداية المخاطر التي قد تظهر وتلوح في الأفق القريب وما خفي أعظم ، أحببنا في هذه الالتفاتة أن ننوه ونشير إلى مدى فداحة وتفاقم النكبة وآثارها على قلة قليلة من الفلسطينيين تكاد تكون المنسية والتي لم تطرح قضيتهم بما يناسب حجم المأساة ، نسأل الله أن يلهمنا رشدنا وييسر أمورنا ويهون علينا .
15/5/2009
أيمن الشعبان
باحث متخصص بشأن الفلسطينيين في العراق
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"