كان قديما يضرب المثل ولا زال بالعقل الفلسطيني أينما تواجد، وهذه حقيقة لمسناها لمس اليد لقلة قليلة كان قدرهم النشأة في العراق، بعد التهجير القسري الذي تعرض له الآباء والأجداد من أرضهم الحبيبة فلسطين، حتى وصل عددهم قرابة 35000 فلسطيني بحسب إحدى إحصائيات منظمة التحرير وقرابة 25000 بحسب آخر إحصائية لمفوضية شؤون اللاجئين عام 2003.
بحسب الشواهد والمتابعة فإن الكفاءات من فلسطينيي العراق مقارنة بعددهم تعتبر نسبة كبيرة بل قد تفوق العديد من التجمعات الفلسطينية في أي دولة عربية أخرى، وهذا يرجع لعدة أسباب أبرزها:
1- دعم المجال التعليمي في العراق وإتاحة الفرصة للفلسطينيين بالدراسة.
2- طبيعة البيئة والأجواء التي عاش فيها الفلسطينيون هناك.
3- العقلية العراقية عقلية متعلمة وبارعة في مختلف المجالات العلمية.
4- معظم الفلسطينيون في العراق ترجع أصولهم إلى قرى مثلث الكرمل – إجزم وجبع وعين غزال - التي اغتصبت بعد احتلال اليهود لحيفا بثلاث شهور، ويذكر أن تلك القرى صمدت وقاتلت قتال الأبطال.
5- الاستقرار النسبي لغالبية الفلسطينيين في العراق وعدم التفكير في المغادرة إلا حالات نادرة.
6- الغربة والتهجير تصنع الإصرار على التعلم كجزء من استرداد الحقوق.
وهنالك أسباب أخرى هذه أبرزها، لكن في الحقيقة الفلسطيني في العراق عُرف عنه التفاني في التعلم والمثابرة بالوصول إلى مراتب متقدمة، وهذا ظاهر لأدنى متأمل في الواقع الفلسطيني، فول أخذنا مجال العلوم الشرعية التي هي أشرف العلوم سنجد هنالك أئمة وخطباء أكفاء من فلسطينيي العراق، وهنالك حفاظ لكتاب الله ومتقنين للقراءات، وعدد من طلاب العلم في اللغة العربية والنحو والتوحيد والحديث والفقه وعلوم القرآن وغيرها.
ولو انتقلنا إلى مجال الطب فهنالك أسماء لامعة على مستوى العراق وعدد لا بأس به من الأطباء، وكذلك يزداد الأمر بالنسبة للمهندسين وحاملي الشهادات العليا من ماجستير ودكتوراة، بالإضافة لعدد من المحامين والتجار والمهنيين، وإذا أردنا أن نخوض في ذلك لطال بنا المقام.
وتشهد الساحة الفلسطينية لعدد من الكتاب والأدباء ولن ننسى الكثير من الأساتذة والمدرسين والمعلمين الذين تخرجت على أيديهم أجيال سواء من الفلسطينيين أو العراقيين، ناهيك عن الكفاءات في مجالات العلوم التطبيقية ومن له براءة اختراع وغيرهم.
لذلك يظن الكثير من العراقيين بل حتى بعض الصحفيين أن عدد الفلسطينيين في العراق يفوق المليون وبعضهم يقدر العدد بنصف المليون، وما ذلك إلا لتشعب التواجد الفلسطيني في مختلف المجالات الطبية والهندسية والتعليمية والحرفية والتجارية وغيرها، فتجد العديد من الأطباء في مستشفيات معروفة في العراق، وهنالك مهندسون في شركات معتبرة وكذلك وزارة الإسكان والتعمير، وتجد مدير عام في وزارة التخطيط والزراعة وغيرها، بل حتى أساتذة جامعات، وفي مجالات التجارة والصناعة فحدث ولا حرج.
ما نريد قوله أن الفلسطيني نوعي أكثر مما هو كمي، ونسبة الكفاءات لعدد اللاجئين الفلسطينيين في العراق تعتبر مرتفعة جدا مقارنة مع بقية أماكن التواجد، إلا أن الأمر انقلب رأسا على عقب وانخفض انخفاضا ملحوظا بعد عام 2003 بسبب دخول عوامل جديدة حالت دون التقدم الفكري والتواصل العلمي لغالبية الفلسطينيين في العراق.
إن تهجير أكثر من ثلثي الفلسطينيين في العراق لدول شتات جديدة؛ كفيل بتقليص نسبة المتعلمين، وانخفاض الاهتمام بتلك الجوانب، أضف إلى ذلك الدوامة التي نعيش بها طيلة ست سنوات ولم تنتهي لحد الآن، ناهيك عن التهجير القسري وحالات الاختطاف والقتل والاعتقالات العشوائية وغيرها من الممارسات التعسفية ضد الوجود الفلسطيني، كل ذلك تسبب فعلا بانخفاض المستوى التعليمي.
هنالك عديد من الطلبة بسب اضطراب الوضع الأمني لعوائلهم ما تمكنوا من الاستمرار بسنة دراسية معينة أو أكثر، أضف إلى أن أعداد مكثت في مخيمات صحراوية منها ما هو شاخص لحد الآن، حتى لو كان هنالك دراسة إلا أن النهاية المرتقبة هو إعادة التوطين فسيكون تحول لبيئة جديدة يحتاج أولا يتعلم اللغة ما يؤدي لضياع وقت معين عن الاستمرار في التعليم الأكاديمي.
كثير من الشباب أو الطلاب قد ضاعت عليهم الدراسة الجامعية بل بعضهم بقي له فقط الاختبارات النهائية، والبعض لكثرة تنقله وترحاله من بغداد إلى سوريا أو دول أخرى وبعض المخيمات الصحراوية، كذلك أفقدهم سنة أو أكثر، وهنالك حالات تم تثبيتها لطلاب أذكياء ولديهم طاقات وقدرات هائلة، وعند دخولهم الاختبارات خارج العراق ما حصلوا على نتائج طيبة!!
الجدير بالذكر أن الآباء وأرباب الأسر لهم دو رفعال في ذلك، فقد انشغل الكثير من الآباء عن أبنائهم بسبب التقلبات وتنوع البيئة وعدم الاستقرار، فتغلبت الجوانب المعيشية والقانونية والأمنية على الجانب التعليمي، وهذا قد يكون منطقي أو طبيعي لكن لا ينبغي أن نتهاون في القضية التعليمية، فهي سلاح ثاقب وقوة ذاتية خارقة يجب أن نتمسك بها.
بعض المجتمعات الجديدة لفلسطينيي العراق تعتبر بيئات غير خصبة للتفوق العلمي بسبب استمرار المعاناة لا سيما في بيئة فقيرة مثل البرازيل، حتى انشغل عديد منهم بالمطالبة بحقوقه كلاجئ حتى حصلت اعتصامات وحالتين وفاة، كل ذلك بالتأكيد ينعكس بشكل سلبي على التقدم التعليمي.
البحث عن الأمان والاستقرار بعد خروج الكثير من محن وفتن محدقة كانوا قاب قوسين أو أدنى من الموت والقتل فيها؛ قد يضعف التفكير في النواحي العلمية نتيجة تقلب وتنوع الأزمات لاسيما مع الحال الجديد الذي تتركز فيه الاهتمامات المادية أكثر من غيرها، كمستحقات الفرد والإقامة والجنسية، وعدم وجود رقيب حقيقي بحيث يذعن له الفرد في الجانب التعليمي.
مثلا في بعض دول أوربا وغيرها نجد هنالك إلزام بضرورة تعلم اللغة حتى يندمج الفلسطيني بالمجتمع ولا يكون عالة، وهذا حق ثابت لكل مجتمع، لكن بالمقابل لا يوجد أي إلزام بضرورة تعلم الفرد العلوم الأخرى، كما كان معنا في العراق من إلزامية التعليم والاهتمام بهذا الجانب.
كل تلك المعطيات واستمرار عمليات التهجير القسري أو الطوعي تنعكس بشكل مباشر على قضية التعليم التي أصبحت الأمم والحضارات ترتقي وتنهض بتقدمها العلمي ولو على مستوى العلوم المادية الدنيوية، مع أننا أصحاب عقول نيرة وكفاءات وطاقات كبيرة لكن شُغلنا عنها بحياتنا اليومية وبأشياء أصبحت أساسية في ظل تجاوزها من قبل الغير.
نحن هنا إذ شخصنا الحالة وبينا الواقع، نقول لابد من إعادة النظر في الجانب التعليمي مع أن الكثير من الأسباب خارجية لكن علينا التأمل بهذا الواقع الذي نعيشه، وندرك خطورة القضية على المدى البعيد على أجيالنا القادمة، لاسيما ونحن أصحاب قضية أساسية لابد نستذكرها في كل حين، لحين العودة لقرانا وأرضنا التي هجرنا منها أول مرة، وكذلك يراد لنا أيضا أن نتفرق ونتشرذم مرة أخرة في دول جديدة وبيئات غريبة لتفتيتنا وإضعافنا، فهي قضية أخرى.
هل تعلمون أن صلاح الدين رحمه الله أبان فتحه بيت المقدس ماذا قال لجنوده؛ قال: لا تظنوا أني فتحت البلاد بالسيوف، إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل، وهذا الرجل وهو القاضي الفاضل كان له مكاتبات مع صلاح الدين وكان ينصحه ولديه علم فانعكس ذلك بشكل إيجابي وكان النصر بإذن الله تعالى.
وحتى نكون عمليين أكثر لابد أن تكون هنالك خطوات واضحة ومعالم للمستقبل حفاظا على الجانب العلمي، وكما يلي:
1- رغم المحن وكثرة التفرق والتنقل، ينبغي علينا إعداد علماء وطلاب علم ودعاة ومشايخ، وينبغي الاهتمام بالعلوم الشرعية أكثر من ذي قبل، لأنها أفضل العلوم قال تعالى( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) وقال عليه الصلاة والسلام( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) والخيرية هنا خيرية الدنيا والآخرة، ونحن بحاجة ماسة لتلك العلوم لأنها أساس السعادة في الدنيا والآخرة.
2- التركيز على الجوانب التعليمية وضرورة إنشاء جيل متعلم يحمل شهادات عليا، تعينه في خدمة قضايا أمته، وينبغي استثمار كل فرصة لذلك.
3- تركيز الآباء على أبنائهم وحثهم على المواصلة في التعليم وعدم ضياع أي مرلحة تعليمية مهما كان الظرف.
4- على جميع المسؤولين والجهات الفلسطينية والعربية الرسمية وغيرها دعم مجالات تعليم اللاجئ الفلسطيني وتحفيظهم لنيل أعلى الشهادات.
5- التركيز على فتح دورات لتعليم اللغة العربية لاسيما في دول المهجر الجديد والبيئات البعيدة عن لغتنا الجميلة، مع ضرورة تثقيف الأجيال على أهمية اللغة العربية.
6- في بعض الدول الأوربية التي تفرض تعلم لغتها قبل المباشرة بمواصلة التعليم، يفترض إتمام تعلم لغتهم بأسرع وقت للتفرغ للتدرج بمراحل التعليم، وهنا تكون الفرصة متاحة أكثر لأن الغالب غير مرتبط بعمل.
7- تخصيص مكافآت وحوافز منق بل الآباء لأبنائهم والمؤسسات العاملة للطلاب لتنشيطهم بالاجتهاد وتحصيل درجات مميزة ومراتب عليا.
أخيرا نقول هذه محطات عامة لابد من الوقوقف عندها لمعرفة الحال وتشخيص الأعراض وكيفية تجاوز المحنة في الجانب التعليمي.
أيمن الشعبان
باحث متخصص بشأن الفلسطينيين في العراق
20/11/2009
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"