تركيا من الداخل بعد سفينة مرمرة – أيمن خالد

بواسطة قراءة 3296
تركيا من الداخل بعد سفينة مرمرة – أيمن خالد
تركيا من الداخل بعد سفينة مرمرة – أيمن خالد

الأمريكان، عندما يدخلون أي دولة في العالم، فهم يدخلونها بلغة رعاة البقر، وعندما يأتون إلى تركيا، فهم يتعاملون بمنطق السائح المؤدب جداً، الذي لا يستطيع تجاوز الطرقات الممنوعة، وباختصار، فإن أمريكا أمام تركيا، ليست هي أمريكا التي أمام العالم، ولا تستطيع أن تكون كذلك، فتركيا التي كان يقودها العسكر، مضى زمنهم، وأمريكا تدرك الآن، أن حجم الاحتقان الداخلي كبير جدا، وان أي خطأ في الحسابات بقصد التدخل لتغيير الخريطة الداخلية، فسيكون في تركيا آلاف الشبان، الذين سيكون أسامة بن لادن معتدلا بنظر الأمريكان قياسا بهم، فليس من السهل على الأتراك بعد تذوق رائحة الحرية أن يتخلوا عنها، وهذا مثال بالنسبة لأمريكا غير جيد في بلد مثل تركيا.

بعد جريمة مرمرة، اختار كل من حزبي العدالة والسعادة المدينة التي سيرد بها من خلال خطاب شعبي، فتوجه اردوغان إلى مدينة قونية، في حين توجه حزب السعادة لاحقا إلى اسطنبول، وكان لاختيار هاتين المدينتين دلالة، فقد اختار اردوغان قونية، هذه المدينة التي أنتجت آلاف الرجال الذين ساهموا في حرب البوسنة والهرسك، وشكلوا مع العرب فريقا للعمل، وهناك تشكلت عندهم الرؤية لعمل عربي تركي مشترك، ولعل كثيرون لا يعلمون، أن ارض البوسنة أنتجت مفكرين كبارا، من الأتراك الذين تشكلت عندهم رؤية جديدة للعالم من خلال مشاهداتهم عن قرب، لكيفية تعامل الغرب مع البوسنة، فقسوة الغرب في البوسنة هي التي عززت الرؤية بوضوح للعثمانيين الجدد نحو فكرة بناء تركيا جديدة.

في تلك الأيام فكّر نجم الدين أربكان، بعمل شيء يخفف من أعباء المدنيين، فتم إنشاء هيئة الإغاثة الإنسانية ـ أي ـ ها-ها، والمفارقة عند أربكان، انه اكتشف المعادلة الجوهرية، وهي أن المدنيين، يتحولون في المعارك إلى لب المشكلة، وهي نظرية صحيحة، لان تخفيف معاناة المدنيين تظل جوهر أي انتصار، ومن خلال تلك الرؤية تمت مساعدة البوسنة، وأيضا، أعيد بناء نظام للتكافل الاجتماعي داخل جميع تركيا، لكن الأهم من ذلك كله، أن المال الذي غادر تركيا لمساعدة البوسنة أعاد إنتاج العقل التركي، الذي اكتشف معادلات الصراع المستقبلية، تماما كما هو المال الذي غادر عبر سفينة مرمرة يعيد رسم ملامح المستقبل في الذهن الشعبي في تركيا. قونية التي قصدها اردوغان ليلقي بها كلمته، كانت موجودة في البوسنة، وأيضا كانت موجودة في الشيشان، وأفغانستان، من خلال الشبان الذين لهم ثقافة خاصة، تقوم على استعادة دور تركيا في المستقبل، على أساس الحفاظ واحترام الأمة الإسلامية، وقونية قصدها قبله أربكان عندما ترشح للبرلمان، مع انه ليس من سكان المدينة، وفي قونية تجد في كل منزل، فكرة استعادة الحلم الإسلامي الكبير، وباختصار فإن كلام الشارع، لا يغرق في رغيف الخبز، أو هاجس الرعب من الأنظمة، فعندما تمشي بين الناس، تجد للناس حلماً.

وفي قونية بالتحديد، هذه المدينة تجعل ثمانين بالمئة من أموال التبرعات مخصصة لفلسطين،وبالتالي فاختيار اردوغان للمكان، هو رسالة واضحة للغرب ولأمريكا، أن هذه هي قونية التي تعرفون شعبها جيدا، فانا هنا أرد على إسرائيل منها.

المواجهة الشعبية الثانية التي اختارها حزب السعادة(حزب أربكان) كانت في اسطنبول، حيث حشد مليون إنسان، على بوابة أوروبا، والرسالة كانت أن الدم التركي ليس رخيصا ولن يكون بلا ثمن، وعندما يختار حزب السعادة اسطنبول، فهذا الحزب الحالم يحاكي زمن الخلافة وهو لا يخفي في أدبياته أن إسرائيل يجب أن تزول عن الوجود، وليس مجرد قطع علاقات وغيره.
الأتراك يعلمون ضعف أمريكا في مواجهتهم، لأنهم يمسكون بمفاتيح المنطقة، فما عند الأمريكان مجرد قوة عسكرية وسيف اقتصادي قوي، وهذا لا قيمة له بمواجهة بنية شعبية يستفيق عندها الحنين القديم، وباتت صدمتها عنيفة، عندما ترغب أمريكا أن تكون هذه الدولة ذات الـ75مليون نسمة، مجرد تابع لشرق أوسط تقوده إسرائيل، فإذا كان حزب العدالة قد فتح أبواب تركيا على الجوار والعالم، فالقنبلة التي حدثت في تركيا، أن الجميع بات يدرك داخل تركيا قيمة أن تكون تركيا كبيرة، ومنفتحة على العالم، وبالتالي هنا استطيع القول، أن أي حزب قادم لقيادة تركيا، ولو كان من القوميين المعارضين، فإنهم سوف يسيرون على خطى حزب العدالة بالانفتاح، ومحاولة أخذ دور في المنطقة وليس الانعزال، وهذا المنهج السياسي، سيضع أي قادم إلى قيادة لعبة السياسة في تركيا بمواجهة حتمية مع إسرائيل وأمريكا، التي تريد بقاء تركيا دولة صغيرة ودورها محدود.

استطيع القول، أن الانتخابات القادمة، لن تقوم على أساس حزبي كما كانت من قبل، وسيكون تأثير الشارع فيها كبيرا، وهذا سيتضح لاحقا، لأن السقف السياسي للعديد من الأحزاب أصبح اقل من المطلوب شعبيا. كما يجب أن نميز بين فكرة الثورة، وبين (النقلة) التي تجري داخل تركيا، فهذه الـ(نقلة) التي تجري داخل تركيا، علينا أن نراها جيدا، فهي ليست ثورة مسلحة، وليست انتصارا حزبيا كبيرا، لكن هذه النقلة، على الرغم مما تتسم به من الهدوء، إلا انها في كل خطوة صغيرة من خطواتها تُحدثُ ما يوازي ثورة.

أزمة أمريكا اليوم، هي أن تركيا كانت تراها دولة يقودها العسكر بالعصا مثل بقية دول المنطقة، لكنها لم تتخيل هذا التحول في المستقبل، لذلك ليست عند أمريكا أي إستراتيجية قادرة على احتواء تركيا، وبينما الأمريكان لا يزالون يفكرون ما العمل؟ ستكون تركيا قد اجتازت مسافة طويلة في السباق.

هذه هي قيمة وجدوى الحرية، فهل سيحرر الحكام العرب شعوبهم أم سيبقون اصغر الموجود.



أيمن خالد / كاتب فلسطيني

القدس العربي

17\6\2010