قال ابن كثير: { فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا
تَضَرَّعُوا } أَيْ: فَهَلَّا إِذِ ابْتَلَيْنَاهُمْ بِذَلِكَ تَضَرَّعُوا
إِلَيْنَا وَتَمَسْكَنُوا إِلَيْنَا { وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } أَيْ: مَا
رَقَّتْ وَلَا خَشَعَتْ { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
أَيْ: مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي.
يقول ابن القيم في الوابل الصيب ص11: فإن الله سبحانه
وتعالى لم يبتله ليهلكه وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته فإن لله تعالى على
العبد عبودية الضراء وله عبودية عليه فيما يكره كما له عبودية فيما يحب وأكثر
الخلق يعطون العبودية فيما يحبون والشأن في إعطاء العبودية في المكاره.
》ه《
{ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ }
من أعظم الغرور والأمن من مكر الله تعالى، أن نعتقد
أننا بمنأى عن تلك المصائب والأمراض، وآخر ما نفكر به وجود عَلاقة متينة بين
الابتلاء والذنوب، مع أنها من المسلمات القرآنية التي أكدها الله سبحانه في غير ما
آية، كقوله تعالى يخاطب خير الناس بعد الأنبياء صحابة النبي رضوان الله عليهم: {
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى
هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } [آل عمران:165].
يقول السعدي في تفسيره: حين تنازعتم وعصيتم من بعد ما
أراكم ما تحبون، فعودوا على أنفسكم باللوم، واحذروا من الأسباب المردية.
يقول ابن الجوزي (صيد الخاطر ص470): المصيبة العظمى رضا
الإنسان عن نفسه، واقتناعه بعلمه! وهذه محنة قد عمت أكثر الخلق.
وكان العباس رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم إنه لم
ينزل بلاء من السماء إلا بذنب ولا يكشف إلا بتوبة.
》٦《
{ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ }
عند حلول النكبات وتوالي الأزمات وتزايد المدلهمات،
يتجلى لطف الله بأهل الإيمان ورعايته لأهل الإحسان، بالتخفيف عنهم وحفظهم من السوء
وتجنيبهم ما حل بغيرهم، والتحلي بالصبر والرضا بقدر الله عند الشدائد، ولولا لطف
اللطيف الخبير لامتلأت القلوب وحشة وفزعاً وخوفا.
يقول السعدي في تفسير قوله تعالى: { إِنَّ رَبِّي
لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ } يوصل بِرَّه وإحسانه إلى العبد من حيث لا يشعر، ويوصله
إلى المنازل الرفيعة من أمور يكرهها.
》٧《
{ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ }
لعل من العبادات المهجورة سيما في أوقات الشدائد
والمحن؛ عبودية التذلل والخضوع والافتقار لله عز وجل، وإظهار المسكنة والفاقة
والانكسار، فالعبد ذليل ومفتقر إلى الله من كل وجه، فهو مفتقر إلى الله تعالى في
النعمة والنقمة، في السراء والضراء واليسر والعسر، إلا أن هذه المصائب تظهر تلك
المعاني وتجليها في اختبار حقيقي لإيمان العبد ويقينه.
ولنتأمل افتقار وتذلل زكريا - عليه السلام - وإظهار
ضعفه الداخلي والخارجي لربه عز وجل، لمّا نادى ربه ليهب له غلاما زكيا، قال سبحانه
على لسان زكريا: { قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ
الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا } [مريم:4].
يقول ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/481): وَاعْلَمْ
أَنَّ سُؤَالَ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ خَلْقِهِ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ، لِأَنَّ
السُّؤَالَ فِيهِ إِظْهَارُ الذُّلِّ مِنَ السَّائِلِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْحَاجَةِ
وَالِافْتِقَارِ، وَفِيهِ الِاعْتِرَافُ بِقُدْرَةِ الْمَسْئُولِ عَلَى دَفْعِ
هَذَا الضَّرَرِ، وَنَيْلِ الْمَطْلُوبِ، وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ، وَدَرْءِ
الْمَضَارِّ، وَلَا يَصْلُحُ الذُّلُّ وَالِافْتِقَارُ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ،
لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ.
أيمن
الشعبان