عامر راشد
المتابع لوسائل الإعلام العربية المرئية والمسموعة والمقروءة
لابدَّ وأن يُصدم بمشاركة مثقفين وإعلاميين في استقطاب سياسي ومجتمعي الحاد، عصف
منذ سنوات ببلدان مثل لبنان والعراق والسودان، وبات يعصف بالمجتمعات العربية في
بلدان ثورات الربيع العربي، حيث يلعب بعض المثقفين والإعلاميين، من مشارب
أيديولوجية متنوعة ومن مواقع مختلفة، دور المحرض على العنف والاقتتال والكراهية
وتعميق الانقسام السياسي والمجتمعي، دون مراعاة واجب المثقفين والإعلاميين كأصحاب
رسالة أخلاقية أولاً وقبل كل شيء، لا يمكن لأصحابها أن يغطوا على العنف أو تبريره
والسكوت عليه، فكيف إذا أصبح البعض دعاة له؟!.
ويمارس هؤلاء (البعض) هذه اللعبة، بدءاً من التحريض العنصري على
الآخر الذي هو من مواطني دولة عربية أخرى، لتتواصل اللعبة بالتحريض على الآخر الذي
هو مواطن مثله مثل الشخص المُحرِض لكنه يختلف معه في الرؤية السياسية والمعتقد
الفكري، وبالإمعان في هكذا لعبة أشبه ما تكون بلعبة الروليت الروسية (رصاصة مسدس
في الرأس)، فإن استعداء الآخر والتحريض عليه يقسم المجتمع إلى فسيفساء من
المجموعات المتصارعة تودي بالنسيج الوطني، بشيطنة الآخر الذي هو الأنا من وجهة النظر
المقابلة.
في لبنان مثلاً رفعت يافطات عليها توقيعات بإسم بلديات رسمية تحظر
على المهجرين السوريين التجول في الشوارع بعد الساعة الثامنة مساء، حرصاً على راحة
المواطنين اللبنانيين وكإجراءات احترازية أمنية؟!. وشنت حملات عنصرية على المهجرين
السوريين في لبنان، شارك فيها وزراء ونواب وسياسيون وقادة حزبيون، استخدمت فيها
مصلحات وأوصاف جارحة تحط من إنسانية المهجر السوري. وشارك في الحملات مثقفون
وإعلاميون أوغلت مواقفهم صدور فئات واسعة من اللبنانيين.
غير أن معاينة المشهد اللبناني عن قرب تظهر أن داء المواقف
العنصرية لدى البعض لا يخص المهجرين السورين وحدهم، ولا اللاجئين الفلسطينيين في
لبنان قبل ذلك، إنما يعبر عن ثقافة صارت جزءاً من هوية البعض المنغلق طائفياً، في
بلد يتحكم به إقطاع الطائفية والمذهبية السياسية. فالتعبئة السياسية- الإعلامية
والأيدلوجية ضد الآخر اللبناني لا تقلُّ شراسة عن التعبئة ضد المهجر السوري أو
اللاجئ الفلسطيني. وأمام أي خلاف سياسي تنفجر معارك إعلامية لا مبدئية تعزف على
الوتر الطائفي والمذهبي الذي يقدمه كثيرون على "الانتماء الوطني".
وفي العراق يكابد العراقيون الأمرين من الخطاب السياسي والإعلامي
للأطراف المتصارعة الموغلة في الطائفية السياسية، بلا منطق الاجتثاث والتهميش
والهيمنة والمحاصصة الطائفية على حساب قيم المواطنة والمساواة والعدالة
الاجتماعية. وبرزت وحشية التعبئة العنصرية ضد اللاجئين الفلسطينيين في
العراق في وقت مبكر تحت ظل الاحتلال الأميركي، وكانت من أسباب ارتكاب عمليات قتل
وتهجير للاجئين الفلسطينيين بتهمة الولاء لنظام الرئيس الأسبق صدام حسين.
وما لبثت تلك العمليات الوحشية أن طالت العراقيين أنفسهم في إرهاب
طائفي أعمى، ما زال حتى اليوم يضرب بدموية حاقدة الأبرياء على حافتي الاصطفاف
السياسي الطائفي، بينما تُخنقُ الأصوات المثقفة الرافضة للعنف، وينظر إليها كعدو
للخارطة السياسية والحزبية القائمة، بسبب سعي تلك الأصوات إلى أن تكون عابرة
للطوائف وتؤسس لثقافة بديلة، أو بالأحرى استعادة الموروث الثقافي العراقي الأصيل،
في مواجهة خطابات التحريض والكراهية والحقن الطائفي.
ورغم ما اتسمت به الثقافة السورية تاريخياً
من سعة أفق وانفتاح فيما يخص المعتقد الديني من حيث التسامح بين كل المعتقدات
الدينية والمذهبية، تسلل إليها عبر عدد من المثقفين والإعلاميين خطاب تحريض على
العنف يهدد وحدة سورية ونسيجها المجتمعي، بحرف الصراع من خلال محاولة إضفاء لبوس
طائفي عليه، للتغطية على جوهر الصراع بصبغته السياسية.
وفي مصر وتونس، يبدو أن منزلق التحريض المتبادل على العنف، بين بعض
العلمانيين والليبراليين والقومين من جهة وبعض تيارات "الإسلام السياسي"
في الجهة القابلة، يقود إلى مواجهات لا تحمد عقباها، ويمكن أن تستمر آثارها
السلبية المدمرة طويلاً ولن يكون من السهولة بمكان معالجة ذيولها على المدى
المنظور. بينما المطلوب خطاب متسامح بين الجميع وللجميع يضع الخلافات السياسية في
حجمها ومكانها ويعمل على حلها بالوسائل السلمية "الديمقراطية"، دون مساس
بحقوق المواطنة بصرف النظر عن المعتقدات الأيدلوجية ما دامت تعبر عن نفسها سلمياً،
وتحت سقف القانون والدستور واحترام حقوق الآخرين.
وفي سياق منزلق التحريض وخطاب الكراهية، الذي يضرب خط عشواء، أصاب
المهجرين السوريين والفلسطينيين ما أصابهم من حملات في بعض وسائل الإعلام المصرية
الخاصة ألقى فيها إعلاميون الاتهامات جزافاً ضدهم، ووصل الأمر بعدد من الإعلاميين
وضيوفهم على شاشات الفضائيات إلى المطالبة بسحل السوريين والفلسطينيين وإحراق
بيوتهم ومحلاتهم التجارية في مصر، وللأسف لم تحرك أي دعوى قانونية ضد هؤلاء
المحرضين، كما لم تتخذ بحقهم إجراءات رادعة.
ومع تسجيل موقف رافض لهذه الحملات من شخصيات فكرية وثقافية وسياسية
وحزبية ومنظمات حقوق إنسان مصرية، لكن الحملات تواصلت، ولم تخف شدتها إلا عندما
صار الحدث المصري أسخن وأكثر تعقيداً من إلقاء اللائمة في أسبابه على عنصر خارجي
مفترض، فانبرت الوسائل الإعلامية التي كانت تحرض على الفلسطينيين والمهجرين
السوريين للعبة التحريض بين التيارات المصرية المتصارعة بعد أحداث الثالث من
تموز/آب الماضي، وهي لعبة خطيرة تمس الروابط المجتمعية المصرية.
وفي تونس رغم انتفاء عنصر التحريض على متهمين من خارج البلاد، إن
مستوى الخطاب الاستفزازي بين أطراف الصراع، كما هي المعادلة في مصر، علمانيين
وليبراليين وقوميين في مواجهة حركات الإسلام السياسي، يتطور سلباً بسرعة كبيرة
تهدِّد المسار "الديمقراطي" في المرحلة الانتقالية بل ومصير الثورات.
والأخطر في كل الأمثلة السابقة أن ينخرط مثقفون أو إعلاميون في
التحريض والتحيز غير المبدئي لطرف دون آخر، لأن ذلك يشوه صورة المثقف والإعلامي،
ويسيء إلى القيم الأخلاقية والمهنية التي تحتم على الإعلامي والمثقف أن يكون دوماً
إلى جانب الحوار، وإشاعة ثقافة تسامح تعوزها المجتمعات العربية في المرحلة الفارقة
التي تمر بها والمعضلات التي تواجهها.
المصدر : وكالة أنباء موسكو
6/8/2013