الرائدة حياة سليم البلبيسي رحمها الله - رشيد جبر الاسعد

بواسطة قراءة 7273
الرائدة حياة سليم البلبيسي رحمها الله - رشيد جبر الاسعد
الرائدة حياة سليم البلبيسي رحمها الله - رشيد جبر الاسعد

بمناسبة مرور 63 سنة على استشهادها باذن الله 9/4/1948 ــ 9/4/2011 م

الرائدة

حياة سليم البلبيسي

تعيد دور الصحابية رفيدة الانصارية في قرية

دير ياسين على ثرى فلسطين الطاهرة

    تلك هي المتفانية (حياة سليم البلبيسي) الفتاة الفلسطينية البطلة ، ابنة الثمانية عشر ربيعا، التي عاشت حياة الفداء والعطاء، والتي لا يعرف قلبها الضعف واليأس ، لذلك كانت انسانية بمعنى الكلمة ، وانسانة كبيرة كبر تضحياتها ومجالدتها، كبيرة كبر تفانيها وعظيمة عظم فداءها .

    تنحدر من اسرة فلسطينية عربية عريقة في مدينة نابلس ، نابلس جبل النار، تخرجت الشابة (حياة) من (كلية دار المعلمات للبنات) في مدينة القدس التي تقيم فيها، من خلال ما درسته وتعلمته أخذت تمارس دورها التربوي الخلاق قي خدمة شعبها وقضيتها وأمتها ، تخدم مجتمعها في افضل عمل النساء التي تلائم دورها وانوثتها وحسب قابليتها في تربية جيل فلسطيني شبابي إيماني واعي غاضب.. يعي دوره المرسوم... يعي مسؤوليته ... مؤمن بالله سبحانه .

    مارست التعليم في (مدرسة قرية دير ياسين) للبنات في قرية دير ياسين قرب مدينة القدس عاصمة فلسطين، ونالت حب الناس ... ورضاهم ... تعلقهم الشديد بها ... واعتبروها ابنة قريتهم وأختهم .

    دير ياسين تلك القرية الامنة الهادئة، العزلاء، تعلم (حياة) اطفالها وصبيانها في هذه المدرسة لقاء اجر رمزي محدود مقطوع.. ، لتعتاش به مع امها وحيدة البيت المريضة .

    ولم يقف طموح هذه المعلمة على تدريس التلاميذ فقط، مع منحهم كل حبها وعرقها وعلمها ووفائها .. من خلال التعليم فحسب، لقد كانت واسعة الافق، متعددة المواهب، طموحة وذكية... فانخرط في (دورة خاصة للاسعافات الاولية) واجتازت الدورة وكسبت المهنة والشهادة في مدة قياسية، ومارست عملها التطبيبي واسعاف الجرحى ومعالجة المرضى لتدخل السرور والامل لقلوب الناس... ولتعمل على شفاءهم وإسعادهم بإذن الله   ... وادخال البهجة الى نفوسهم .. وقلوبهم .

    عرفها مجتمع قرية دير ياسين والقدس... بانها تلك الانسانة النبيلة المرهفة الحس ، الرقيقة المشاعر ، الشفافة والبسيطة... في تعاملها مع الاخرين ... تمتاز بالنشاط والخفة والحيوية وعلو الهمة. تمتاز بالرقة والنفاذ الى قلوب تلاميذها .. والى قلوب مرضاها لهذا منحت (حياة سليم البلبيسي) اهل القرية كل جهدها واخلاصها ... منحت اهل قرية دير ياسين كل وفائها ودموعها واخلاصها واحاسيسها الجياشة .. في المقابل تبادل معها اهل القرية صغيرهم وكبيرهم، تبادلوا معها نفس المشاعر والأحاسيس والود والحب. فهي لا تدخر جهدا في ذهابها الى اي جريح او مريض وزيارتها لهم والوقوف على احوالهم ... مع مواصلتها وممارستها نشاطها التعليمي والتربوي .. ثم نشاطها التمريضي والتطبيبي لاهل القرية .. فنراها تلقي الدروس واجراء التمارين ، وتضرب لهم الامثلة في الاسوة الحسنة والقدوة الرائدة بالصحابيات الرائدات الكريمات ... الصحابيات الجليلات من امثال رفيدة بنت اسلم الانصارية صاحبة اول مستشفى ميداني متنقل ... واول طبيبة في الاسلام ... التي نصبت لها خيمة لتسعف جرحى معركة الخندق في اول مستشفى ميداني حربي متنقل ... والصحابيات صفية بنت عبد المطلب وفاطمة الزهراء البتول وأسماء بنت أبي بكر (ذات النطاقين) ونسيبة الانصارية وغيرهن كثير رضي الله عنهن ... تتحدث المعلمة والمطببة – حياة - ... لاطفال القرية ... وتلاميذها ..

    كانت حياة (الشابة حياة) حياة عصيبة ، عاصفة مضطربة ، عاشت أيامها ولياليها بكل طولها وثقلها ، بكل قلقها ومعاناتها ... بسهرها بارقها ... باحلامها بكوابيسها، نتيجة هذه الاوضاع المأسوية الشاذة والمحزنة التي تمر بها البلاد الفلسطينية .. في حرب فلسطين من عام 1948 . أنها المؤامرة والنكبة .

    اوضاع مؤلمة ومصير كاتم ينتظر البلاد في اسوأ مؤامرة عرفها التاريخ ... على ايدي اخبث قوتين في العالم الاستعمار البريطاني الخبيث والحركة الصهيونية المجرمة ...

    لهذا الواقع المرير ... لهذه الاحداث الجسام المروعة ... عاشها ابن فلسطين بمرارتها وبقسوتها ... وحيدا اعزلا ... أمام اعتي قوه ... اعتى مؤامرة ..

    المعلمة (حياة سليم) واحدة من هذا الشعب المسلم العربي الغيور المبتلى .. والمقاوم فكانت في مستوى الحدث فلا مجال في حياتها للعبث والفراغ ولا مجال في حياتها لقضاء الوقت في امور ثانوية تافهة مثل ما تفعله كثير من البنات بالوقوف امام المرآة الوقت الطويل تفكر في نفسها واناقتها وجاذبيتها وجمالها.. ، هذا لا تعرفه (حياة) ولا تعرف التميع ، ولا التبرج، ولا الخضوع بالقول ولا اغراء الاخرين وبيان جاذبيتها ... ، لان هناك أمر أهم واعم بالرغم من جمالها ورشاقتها وقوامها الممشوق ... فهي لم تبرز ولم يبدو منها الا دماثة خلقها ورقة مشاعرها وحسن ادبها وبساطة مظهرها بعيدا عن التصنع ووضع المساحيق والبهرجة والتبرج ...

ابدأ لم تكن (حياة) من هذا الطراز من الفتيات، والعدو الصهيوني الظالم على الأبواب قادم ليداهم ليفسق ويجرم ويقتل ... ويغتصب الارض والعرض والوطن ..؟!

    لذلك لم تكن من اللواتي يضيعن الوقت في الاكثار من تغيير الملابس والبحث عن الاناقة والتفسح او النزهة .. لم يكن عندها متسع من الفراغ وهذه مسألة بديهية مفروغ منها لأنها سخرت كل عملها وعلمها ومهنتها لإسعاد أبناء وأهل القرية .. سخرها الله سبحانه تعالى لتحب اهل القرية وتعمل على اسعادهم او على الاقل التخفيف عن معاناتهم ... وهذا هو دورها المرسوم المشرف الرائد الذي عاشت له ... واستشهدت باذن الله من اجله .

اما في بيتها فالمأساة أيضا كبيرة ، فأمها وحيدة في البيت ، مريضة لا تستطيع الحراك بسبب الشلل فتنتظر الساعات المريرة الطوال انتظارا لمجيء ابنتها (حياة) لتمارس لها العلاج الطبيعي وتقدم لها الطعام والدواء والشراب .. تقدم (حياة) لامها القول المعروف والبسمة والحنان والحب والدفء ... والامل ... والطاعة والكلمات الرقيقة ... تقدم لامها القعيدة الامل والهمة ... والشفاء باذن الله تعالى ..

    تقضي ساعات الدوام في المدرسة تعلم التلاميذ تاريخ الامة العربية الاسلامية، تشرح لهم ما يحيط بها من مؤامرات، تستلهم من ماضي الامة المنهاج والطريق والعودة الى الله سبحانه وتعالى عودة نصوحة ... عودة جميلة الى الله..

    فتعيش (حياة) مع أهل القرية مصيرهم وقدرهم وحلمهم وهمومهم . ان تضحياتها هذه تذكرنا بالصحابية رفيدة بنت اسلم الانصارية ، تذكرنا بكل الصحابيات رضي الله عنهن جميعا. وما قامن به من مشاركة ومن معايشة لجند الاسلام في الغزوات والفتوح، لخدمة الدولة الاسلامية وتعزيز الحضارة الاسلامية وبناء المجتمع العربي المسلم في ايام الفتوح والحرب، وايام البناء والسلم ...

    وهكذا تعيد اليوم المرأة الفلسطينية في صبرها وتفانيها وفي بناء الجيل الايماني الجديد، تعيد سيرة السلف الصحابيات الكريمات، رضي الله عنهن .

    في يوم الخميس 8 نيسان 1948 استشهد باذن الله القائد الكبير الفذ البطل عبد القادر الحسيني في اشرف نزال في معركة ضروس ضد الارهاب الصهيوني في معركة القسطل وهي معركة غير متكافئة ... ومع هذا خاضها ابناء فلسطين بقيادة عبد القادر الحسيني فاستغلت عصابات الصهاينة المسلحة المدربة الوحشية الفراغ الامني الذي حصل بعد استشهاد قادة فلسطين باذن الله ومنهم عبد القادر الحسيني، فانفردوا بقرية دير ياسين الهادئة الوديعة العزلاء من السلاح وارتكبوا جريمتهم النكراء حيث داهموا القرية من كل الجوانب بدباباتهم ورشاشاتهم وكل اسلحتهم الفتاكة اخذوا يقتلون الطفل امام امه، ويقتلون الرجل والشيخ الاعزل امام زوجته وقتلوا معظم النساء والاطفال والشيوخ وكل سكان قرية دير ياسين ليكون عدد ضحايا الصهاينة في هذه المجزرة الجماعية الصهيونية وخلال ساعات  ما مجموعه 252 نفس (نسمة) ... وكانت هذه الجريمة وغيرها من جرائم الصهيونية المروعة وصمة عار في جبين الصهيونية وفي جبين من يؤيدها ... ويسكت عليها ...

    وعاش كل فلسطيني قدره ومصيره ... وكان بعض رجال القرية يملكون بعض البنادق فقاوموا هذه الهجمة حتى استشهدوا باذن الله وحينما استشهدوا باذن الله حمل البندقية بعد كل واحد منهم اما زوجته وإما ابنه ليكون حالهم الصمود والثبات والاستماتة في الدفاع عن القرية والأهل .. لينالوا الشهادة .. الكريمة .. المبتغاة .. لأن هذا هو جهاد مشرفهم في سبيل الله .. واستذكار قول الشاعر :

  إذا لم يكن من الموت بد                     

                      فمن العار إن تكون جبان

    اما المعلمة المربية والممرضة الإنسانة (حياة) ، تلك الشابة الفلسطينية الماجدة فقد آلت على نفسها ان تعمل على اسعاف ما يمكن اسعافه رغم حجم المجتمع، ورغم كبر الفاجعة ... آلت على نفسها ان تقف مع بؤساء القرية المنكوبة تواسي من بقي على قيد الحياة من اطفال وبعض الاحياء ... لتمنحهم التفاءل والمواساة والضياء ... وسط دخان ورصاص المجزرة وحرائق القرية ودمار البيوت ...

    عاشت (حياة) قدرها وعاشت مسئوليتها امام الله، امام التاريخ والضمير .. لتربط مصيرها مع مصير اهل القرية ... اما ان تنجو مع من نجا ، واما تبقى تبحث بين الركام والنار والدمار عن جرحى ... عن أصوات الأنين ... واصوات الآهات ... ونداء من لا يزال فيهم بقية من بعض الانفاس بقية من رمق ... تبحث عن اطفال لتضمدهم وتضمهم الى صدرها ... لتحضنهم وتخفف عنهم هول الجريمة النكراء ... وتتنقل هنا وهناك بين بيوت القرية وازقتها واينما ولت وجهها ترى الجثث والجراح والنزيف والماء ... في معظم اهل قرية ديرياسين الذين احبوا (حياة) ، و (حياة) احبتهم ... وهالها ما ارتكبه المجرمون من قتل و إزهاق 252 نفس بريئة خلال ساعات يوم الجمعة 9/4/1948 عملية قتل مبرمجة وحشية تمت بعنف وقوة مفرطة وبدم بارد وبحقد لا مثيل له ... ومن اجل ان يخفي الجناة جريمتهم المروعة ومحو اثارها (كما يتصورون في تفكيرهم الضحل) نقلوا هذه الجثث ووضعوها داخل بئر لإخفائها عن المنظمات الانسانية وعن العالم الا ان الله فضحهم وعلم بجريمتهم كل العالم .

    استمرت عصابات الصهاينة الايلاغ في الجريمة والامعان في القتل ... فاستمر الرصاص والقتل وبث الرعب .. رصاص غزير ينطلق من مختلف الأسلحة الرشاشة الحديثة ... ينطلق الرصاص في كل انحاء بيوت القرية ... وفي كل اتجاه ... انه القتل العشوائي والعمد والجريمة المنظمة ..؟!

لله در هذه البطلة (حياة) ...تسير بصمت ورباطة جأش ... وسط غابة الموت ... والالم يغمرها، والحزن يعصرها، وترى ما هول ما ترى ، من ضحايا وجثث .. اصحاب هذه الجثة تعرفهم ويعرفونها وبادلوها كل الالفة والحب والصداقة فتالمت الالم الشديد ... وانسالت قطرات دموعها حزنا والما .. لهول ما رأت ، لما حدث ، ولكنها حبست دموعها ... اذ لا وقت للدموع والاحزان ... ان هناك من يحتاجها وفي انتظارها كي تسعفه ... وتضمد جراحه بعيدا عن اعين الاوباش .. بعيدا عن اعين القتلة ان امكن ... وتعيد لهم الحياة .. باذن الله ..

    لكن (حياة) انتزعت الخوف من قلبها، وحبست دموعها وتحلت بالصبر والالم يعصرها ... جثث الاطفال الصغار والتلاميذ الذين كانت تعطيهم الدروس هنا وهناك الذي زاد في المها انها تعرفهم وتعرف اسمائهم ... وتسمع في إنحاء متفرقة من بيوت وازقة قرية دير ياسين تسمع الصراخ ... والانين ... وطلب والاستغاثة ... والآهات ... والبكاء ... والعويل ... في كل اتجاه ... فتملك نفسها ، وتجالد ، تضمد هذا الجرح ... وتسعف ذلك الجريح ... وتواسي اخرون ... بعزيمة بهمة متناهية لا مثيل لها ... وكان هاتفا عاليا من السماء يخاطبها ويردد معها وعلى مسامعها :- 

    ... يا حياة ... ايتها البطلة الابية ... يا شمعة تحترق وتضوي لتنير الدرب للاخرين .. للاجيال ... يا منارة العلم ... وشعلة الهدى والانسانية ... وشمس الايمان ... يا بنت القدس ... وفتاة الاقصى ... وأخت أبناء دير ياسين ... ان كثيرين هم بحاجة اليك .. بحاجة الى حنانك وعطفك ، بحاجة إلى ابتسامتك المعهودة والى رقة أناملك ... ولكنك قدمت الكثير ... إلا فكرت بنفسك وسط ركام هذه المخاطر والنيران والدماء والدموع والشهداء ..!؟ هل نسيت نفسك من اجل حياة وسلامة الاخرين ... والله انه الإيثار والتضحية ..

    قضت حياة ساعات مرعبة طوال ... والصهاينة لا يزالون يتمادون في الجريمة ... وبقر بطون الحوامل ... واغتصاب النساء والفتيات ... فسارت ( حياة ) وسط ذهول شديد مرعب في سير بطيء حذر وهي ترافق امرأة عجوز تمسك بذراعها لتسير معها وتطيب من خاطرها وتهدئ من روعها ،تسير حياة وتحمل هموم ماساة القرية كلها ولكن ماذا يمكنها ان تفعل ... وهي لا تزال تتذكر ان امها المقعدة المشلولة في انتظارها .. بعد إن أدت  ما عليها من واجب في هذه القرية المنكوبة وبينما هي تسير اذ سمعت صوت انين انسان جريح قريب منها ... دم ينزف وصوت انين يستصرخ من يسمعه وينجده .. ولا مجيب ولا مغيث .. سارت نحو الصوت وسط هذا الصمت المرعب ... ووجدت احد مواطني القرية يعاني من جرح ينزف الدماء بغزارة فلم تطق ان تتركه يئن ويصرخ وتنجو بنفسها فذهبت نحوه وقد نفذت من عندها مواد الاغاثة والاسعافات الاولية والمواد الطبية والعلاجية، تريد ان تسعفه وتخفف عنه فلم تجد ما تشد به الجرح سوى ربطة رأسها التي تستر بها شعرها ورأسها، فمزقتها وجعلتها نصفين كاللفاف الطبي، لفت الجرح باحكام ليقطع نزيف الدم ولم تنس (حياة) شارة (الصليب الاحمر الدولي) ان تضعها على ذراعها لتبيان مهمتها ووظيفتها الانسانية والاخلاقية، لعل هناك من يفهم او يعي المسؤولية الاخلاقية ..

    وانقطع نزيف الدم ... وسط ازيز الرصاص المنهمر والمستمر ليمزق سكون القرية الآمنة وصوت حفيف الأشجار في الربيع الحزين ... الربيع الباكي .. في نيسان الألم والأمل ...

    ولكن سلوك الصهاينة الاجرامي ابا ان يفارقهم ، لان هذا السلوك الجبان متآصل في نفوسهم ويجري في عروقهم ... لقد كان القناصة الصهاينة يراقبون حياة ولها بالمرصاد فكيف لها ان تحيي وان تشفي نفسا باذن الله ... رآها القتلة وهي تقوم باسعاف الجريح وانقاذ انسان من موت محقق .. فعاجلوها بالرصاص وتستشهد في الحال ... لقد اصيبت برصاصة قاتلة في رأسها وهي تغادر الى الرفيق الاعلى وتشكو الى الله سبحانه طغيان الصهاينة وكيدهم وظلمهم وعدوانهم الآثم .. واستكبارهم على كل الأمم والشعوب والأقوام في كل الأرض .. قديما وحديثا ... الا ساء ما يفعلون ... الا ساء ما يجرمون ... إنهم قتلة الأنبياء والرسل .. ذهبت – حياة – شهيدة باذن الله بريئة بطلة تحكي قصتها لنساء العالم وهي تشكو جرائم الصهيونية ومن اتى بها لبلادنا ... وتشكو تقاعس وتخاذل كثير من قادة وحكام البلاد والاقطار العربية والاسلامية .. الذين لم يقفوا وقفة مسؤولية جادة شجاعة ... كما ينبغي ...

    ان – حياة – كانت تخاطر بنفسها، تغامر بروحها، تعيش قدرها، تعي شرف مسؤوليتها، ومهنتها ، فهي لم تكن تفكر في نفسها، ولا في امها في هذه الساعات القلقة المحرجة الحاسمة المرعبة، لأنها كانت حريصة جدا ان تعيش واقعها وقدرها، تعيش همومها الموزعة على ابناء القرية، ومصير امها في القدس وهي مقعدة، هموم عدة، فلم تكن – حياة – تفكر في هروب من الواقع، لم تفكر في انسحاب خفي او مغادرة هادئة تحت جناح السرعة، او تحت جناح الظلام، وسط القنابل والمدافع والنيران، وسط الموت والجثث والدموع والدمار والخراب : ان دموعها الحبيسة لم تجف بعد، ابت الا ان تعيش واقع وهموم القرية مع اهلها وابنائها، مع زهراتها البريئات وبراعمها الصغار، وفتياتها الكريمات... ورجالها الشجعان الذين دافعوا عن قريتهم وارضهم وعرضهم ودينهم ... حتى الاستشهاد باذن الله  .. هذه هي شهادات التاريخ المنصفة لهم .. والتي لم ولن تنس ..ما دمنا في الغربة والمحنة  التي طالت .. ولكن الفجر المشرق قادم إن شاء الله ..

    كانت – حياة – في هذا الموقف الصعب تغتنم فرصتها الذهبية لتحمل مسؤوليتها في هذا الموقف الصعب، وفي هذا المكان الخطير .. لقد قدمت الكثير والكثير واكثر من حجم مسؤوليتها ، تجولت في انحاء القرية ... تتفقد من لا زال على قيد الحياة لتقدم له ما يمكن تقديمه ... ووسط البيوت المهجورة والمحترقة ومشاهد الدخان ومشاهد الذبح .. كانت تسير وتعالج الجرحى وتسعفهم وتضمدهم ... دون ان يراها العدو ، تسعف من لا زال فيه بقية من نفس او حياة .. وهي كما سلف تحمل على كتفها (شارة الصليب الاحمر الدولي) تسير وتمسح دموع امرأة مفجوعة هاربة، تواسي اخرى ثكلى، تزيد من همة رجل في الثبات والمقاومة، تربت على كتف فتى ، تمسح رأس يتيم ، تجبر خاطر فتاة هلعة .. وتواسي صبية اخرى مرتجفة لتخفف من هلعها وحزنها، تشد من صبر امرأة ارملة، ترفع من معنوية جريح ، ترثي الشهداء وتدعو لأهلهم بالصبر ...وتبتسم لشيخ يوشك ان يلفظ انفاسه الاخيرة، وهو يتشهد باصبعه... تودعه بنظرة ناطقة وكانها تقول له ان موعدنا في الجنة ان شاء الله لاننا أهل الإيمان والتوحيد والرباط ... وتداعب طفل يبكي حتى يسكت ... وترى شابة خائفة من افتراس الوحوش الذئاب البشرية لها والاعتداء على عفتها ... فتشد من ازرها وترشدها الى طريق قد يكون آمن ... تودع الناس ... تودع الشهداء ... توزع ابتسامات الشفاء والثقة والامل ... على الجميع ... تنفخ فيهم روح البطولة والحماس والاباء ... روح الصحابة الكرام والصحابيات الكريمات وان النصر قادم ان شاء الله تعالى ...

    لقد تم قتل – حياة – على مسرح الجريمة والدماء وفي وضح النهار ... وجهارا .

    صوب الصهاينة رصاصهم نحوها فقتلوها لأنها حاولت أن تمارس دورها الأخلاقي في الأخلاق في الحياة كإنسانة لها مشاعر وواجبات لتنقذ انسان اخر من الموت المحقق اذا لم يسعف ولم يعالج .. قتلوها لانها حاولت انقاذ انسان جريح ... لتكون شهيدة باذن الله من شهيدات دير ياسين ... من شهيدات فلسطين العزيزة .

    خيم الظلام الموحش ولف القرية الحزينة ... المنكوبة وحل الصمت والسكون المرعب ليفوق هذا الجريح الذي اسعفته – حياة – من اغمائته ويجد ان الانسانة التي اسعفته  وانقذته ... ماتت .. فارقت الحياة وهي مستلقية على الارض بجانبه .. وعلى ذراعها شارة الصليب الاحمر الدولي ... وفي يوم السبت صباحا 10 نيسان 1948 استطاع هذا الشاب الجريح ان يصل الى القدس ويعرف بيت اهل – حياة – الذين كانوا بانتظارها على احر من الجمر .. ينتظرون بفارغ الصبر والشوق واللهفة لرؤية ابنتهم حياة والاطمئنان عليها لانها تعمل في قلب دير ياسين ... وما ادراك ما دير ياسين ... وليخبرهم هذا الجريح وفي حزن عميق ان ابنتهم حياة قد استشهدت باذن الله بعد ان منحت حياتها لانسان اخر ... جاء يخبرهم وهو معصور من الالم يقف متحاملا على نفسه .. جاء ليواسيهم ليقدم لهم الواجب ... انه يبكي تلك الانسانة النبيلة التي عرفت كيف يكون العطاء وكيف تكون التضحية من اجل الكرامة والنصر ... ونيل الشهادة المبتغاة باذن الله لهذه الزهرة اليافعة ابنة الثمانية عشر ربيعا .. ابنة القدس والأقصى ... ابنة نابلس ... ودير ياسين ... ابنة العروبة والاسلام والانسانية ..

    فتاة فلسطين الفدائية – حياة-  البطلة الرائدة حياة سليم البلبيسي ، من مواليد عام 1930 ، وقد استشهدت باذن الله يوم الجمعة 9 نيسان 1948 .. عاشت مع اهل القرية دورها ومصيرها وقدرها ومسئوليتها ، نشأت لابوين فلسطينيين من عائلات نابلس، اباها هو سليم البلبيسي ، امها وسيلة القطب ، وخالتها قدرية القطب، هاجرت أسرتها إلى مدينة السلط فتوفي والدها، واصيبت امها بمرض الشلل النصفي الذي اقعدها وشل حركتها .

    انتقلت العائلة الى القدس لتعيش فيها عند اقاربها، ... وكان نصيب ابنتهم العصامية – حياة – ان تعمل في دير ياسين ...

    لم تكن (حياة سليم البلبيسي) هي وحدها الانسانة الفدائية والبطلة في ميدان دير ياسين .. فقد كان هناك عدد اخر من نساء دير ياسين دافعن عن القرية بكل ما أوتين من قوة وسطرن ملاحم البطولة وآيات الصمود والآباء والشموخ .. فقد من آيات البطولة والفداء .. حملن السلاح وقاتلن جنبا الى جنب مع اخوانهن الرجال يقدمن الضماد والدواء، يسقين الماء، يحفرن الخنادق، يعدن الطعام، يشددن الهمم ، يقوين العزائم، يحثن على الثبات والصبر، يعززن الموقف الجهادي الاسطوري الخلاق ... والمشرف ... والمتفرد ... والرائد فكانت البطلة الشهيدة باذن الله (حلوة زيدان) من نساء وبطلات قرية دير ياسين، التي رأت فلذة كبدها يقتل برصاص الصهاينة المجرمين وأمامها، فلم تجزع، بل تمالكت نفسها وصبرت، وزغردت لان ابنها قد نال الشهادة ... ثم قتل زوجها برصاص الغدر اليهودي فاحتسبت إلى الله، ولم تجد بد من إن تأخذ بندقية ولدها الشهيد باذن الله وتمسك بها بقوة وتصوبها نحو الصهاينة وتقتل وتجرح عددا منهم ما استطاعت الى ذلك سبيلا ..

    اطلقت الرصاص على العدو ... وصمدت ... وقاومت ... حتى استشهدت باذن الله كأي فارسة تسقط في ميدان البطولة ... ميدان الفداء والبذل ... تحية حب وإكبار ووفاء إلى البطلة الشهيدة باذن الله حلوة زيدان ... ابنة دير ياسين الذبيحة ..

    ثم هناك البطلات (جميلة احمد صلاح) و (ذيبة عطية) و (نساء اخريات..) اشتركن في المقاومة والدفاع عن النفس في دير ياسين بالرغم من عدم امتلاكهن السلاح الا ان مهمتهن كانت في توزيع الذخيرة القليلة على عدد من المقاتلين من المحظوظين، الذين يملكون بنادق... وقد اصيبت هذه النساء بجراح خطرة وتم معالجتهن ... واخريات قتلن بالرصاص ... ومثل بجثثهن .. !!؟

    ولن ننسى في هذا المقام البطلة (جولييت نايف زكا) وما ادراك ما هي جولييت نايف زكا .. انها من حيفا عمرها 19 عاما، استشهدت باذن الله من اجل معالجة جريح ومحاولة إنقاذه بجوار حديقة بيتها فعاجلها العدو اللئيم بإطلاق النار عليها وقتلها ...

    تحية حب وتقدير ووفاء للبطلة (جولييت نايف زكا) وامثالها ... الماجدات الرائدات ... كانت جوليت تحمل شهادة الدراسة الثانوية البريطانية ، وتخرجت من دورة اسعافات اولية ... وسخرتها لخدمة شعبها الفلسطيني المقاوم ..

    كثيرة هي بطولات المرأة الفلسطينية ... وكثيرة هي تضحياتها وميادينها ... كتب عن البطلة حياة سليم البلبيسي :

    (... زهرة من زهرات فلسطين عمرها 18 عاما يوم استشهدت باذن الله ولكنها لم تبحث عن اللهو والمتع في الحياة بل انصرفت لاداء واجب مقدس فسجلها التاريخ في عداد شهيداتنا الباسلات باذن الله تلك هي – حياة – البطلة حياة البلبيسي) ([1]) .

كما كتب عنها المؤرخ الفلسطيني المشهور عارف العارف في موسوعته (النكبة) ، وكتبت عنها لجنة (الموسوعة الفلسطينية) كما كتبت عنها مجلة فلسطين الصادرة عن الهيئة العربية العليا لفلسطين في بيروت في العام 1961م .

    وكذلك مجلة (الحكمة) العراقية في عدد خاص لها عن نضال المرأة الفلسطينية كما تناولت (حياة البلبيسي) كثير من الكتب والمجلات والصحف .. لا تعد ولا تحصى ... تحت عنوان : بطولات نسائية عبر مذبحة دير ياسين جاء : ( .. ولما صب الصهاينة نيران حقدهم على الآمنين العزل في دير ياسين شباب ونساء ورجال وشيوخا كانت المعلمة حياة سليم البلبيسي النابلسية تدرس هناك ...

    ويوم المجزرة البشعة كان يوم إجازتها فلما علمت باجتياح الصهاينة للقرية رجعت إليها فورا لتساهم في إسعاف الجرحى .. فاستشهدت باذن الله برصاص الصهاينة الوحوش وهي تضمد بمنديلها جراح رجل مصاب .. وبطولات نسائية فلسطينية رائدة خلاقة أخرى .

    تحية وفاء وعرفان لنضال المرأة الفلسطينية عبر قرن من النضال والمسيرة الكفاحية والوعي وتربية الأجيال ... المستمرة ...

    قرن من المقاومة والصمود والمرابطة ... والعطاء وشحذ الهمم والوقوف جنبا إلى جنب مع أخاها الرجل في مواجهة الهجوم الصهيوني المغولي النازي الشرس .. من اجل الفرج القريب والنصر القادم إن شاء الله تعالى ..

ــــــــــــــــــــــــــ

(1)    _ (شهيدات) النضال الفلسطيني من اجل التحرير والنصر ( ملف خاص ) مجلة الحكمة عدد (25) محرم 1423 هـ الموافق نيسان 2002 م , بغداد صفحة (48) . 

 

رشيد جبر الاسعد

3/4/2011

 

المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع

"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر" 



([1]) وفيقة حمدي الشاعر : كفاح المرأة وصمودها ، صفحة (118) .