بداية, هذا الموضوع ليس تحليلا نفسيا .. ولا هو بحث في عمق الذات الفلسطينية , ولا هي محاولة لسبر غور الشخصية الفلسطينية - العراقية من الداخل ... فلست ممن يدعون فهم النفس البشرية , كما اني لست مؤهلا للتحليل النفسي لأني لست اكاديميا في هذا المجال او هذا التخصص الصعب .. فحتى اليوم ما زال علماء النفس يحاولون فهم الذات البشرية بكل تعقيداتها ... ومنذ الاف السنين .. ولكن دون جدوى.
انما هي استحضارات آنية مباشرة لافكار وتلميحات وهواجس لها علاقة جادة عميقة بتوجسات علنية واخرى خفية تتصارع في دواخلنا .... متناقضة, غريبة , مفاجئة , غامضة في مجملها , بلا حدود , بلا فواصل , فاقدة للاتجاه وبلا بوصلة , تضئ احيانا وتنطفيء احيانا اخرى , تشعر بها قريبة مرة , واخرى تشعرك بابتعادها عنك , قاسية , حادة , بلا لغة مفهومة ... ما يجمعنا واياها انتماء واحد : الغربة والتغريب .
هناك , في بغداد .. كنا نحن .. نشبه انفسنا , قريبين جدا من ذواتنا , والمسافة بيننا وبين الحلم واحدة ... في التاريخ كما في الجغرافية .. كنا نعيش حالات ذات بعد نفسي واحد لكنه متشابك ويشاطرنا السكن فينا منذ الولادة : (الهوملس) وهو باختصار المشرد او الشريد ... بلا مأوى او بلا وطن .... لكننا في البعد الاخر كنا تحت مظلة وطن ارتبط بكل احاسيسنا وتاريخنا الذاتي والجمعي بالتداخل فينا والاقتراب من مصائرنا ودروب اعمارنا وتعمق في ذاتنا حد التلاحم
والاندماج فكان نقيضا للغربة مقاربا في التواصل معنا ومع احلامنا تجاه الوطن الام : فلسطين , وكانت بغداد بكل عناصر الحياة الجميلة فيها والخربة .. وبكل محطات الفرح فيها او الحزن وبكل لحظاتها معنا في السلم والحروب ... بغدادنا ... وكنا ابناءها فكانت كأنها لنا ام ونحن لها ابناء.....
متداخلين بلا فواصل ولا حدود .. اقصد في البناء والتركيب النفسي , كأنتماء.
اما الان ... وبعد خروجنا القسري الدموي وبسبب الحقد الطائفي الاسود ... وبعد سلخنا من جلد بغداد بالسكاكين الصفوية المسمومة ... والحاقنا بقوائم الاغتراب المركب الصعب ... وبعد اقحامنا في عوامل نفي جديدة غريبة ومعقدة ومتناقضة مع مفاهيمنا وتربيتنا وحتى ديننا
... وبالضد من كل ما فطرنا عليه ... وبعد ان ادخلونا في مصحات اعتلال فجائية ومنغصات افتتان من انواع جديدة ايضا .... كانت لنا موجات من اعاصير تجتاح انفسنا من الداخل وتحاول اقتلاع كل الخزين الانساني البدائي فينا وتشتبك معه لتحيلنا الى مفردات احساس مركب من التوق العاطفي والرغبة الشديدة لماض كان لنا ... وكانت لنا فيه كل صفحات العمر الاول من مشاكسات الطفولة هناك حتى لحظة الوداع المستمرة حتى الان .
في الغالب ... الجميع خاضها مع صدمة الشهور الستة الاولى والمسمات (الصدمة الثقافية) وفتحت فينا قنوات اتصال عميقة بمشرط جديد هو ( الهومسك ) وفيه ما يعني كل توق او شوق او حنين لوطن فقدك او انت فقدته ... سفرا او نفيا او تهجيرا قسريا ... وهكذا صار(الهومسك ) خاصتنا فلسطينيا - عراقيا ... فريدا وغريبا.. فحلمنا الكبير صار حلمين , وابتعدا عنا كثيرا , والوطن المنشود صار وطنين , والحنين تجزأ وكذلك التوق ... وتعمق في الذات الارتحال ... واصبح الاغتراب مزدوجا ... وهكذا , كان يقيم فينا وطن نبحث عن اثار اباءنا واجدادنا فيه وعلى ترابه ... اصبحنا نبذل الجهد في محاولة اكتشاف اثار طفولتنا في وطن اخر اقام فينا واقمنا فيه .... لكنا تركنا على ترابه ذاكرتنا مع موتانا من الاحبة الذين دفناهم هناك, قبل الرحيل .
هو اذن هوملس مركب فلسطيني- عراقي يغرينا في العبور الى فضاءات اغتراب نادر ... من هموم جديدة لم نعرفها من قبل ولم نعهدها ... وينتج عن ذلك هومسك , غريب ومركب ايضا خاصة في ذروة الصدمة الثقافية الناتجة عن اكتشاف نفسك في محيط غريب تماما وبكل التفاصيل الاجتماعية والثقافية والدينية والتربوية وصولا الى اللغة ...فتدخل في دوامة من حالات وسواس متواصل .. ثم حالة اضطراب شديد لاسباب تجهلها او بلا سبب ...ومن بداية شعور بالاحباط الى احتضان كامل للتعب ... وتشوش ذهني مباغت يفضي الى ضعف في التركيز ...كذلك يتغير نمطك الغذائي ينتج عنه في الغالب شهية مفتوحة ... او فقدان بالوزن ...ومع تواصل الترقب والحذر من عدو غير موجود بالاصل في المحيط الجديد , يتعمق الشعور بالتلصص والاعتقاد بأن جميع الاغراب الجدد يراقبونك ... ونتيجة عدم الفهم الكامل للقوانين في البيئة الجديدة ينتابك خوف غير مفهوم من القوانين ... يتداخل مع خوف اكبر من المجهول القادم ... وتصل هذه الموجات حد الاحساس بالتورط بشكل عارم .. ناتج عن التحول المفاجئ والانقلابية الكاملة في تبديل المكان .... ولأنك غادرت مكانك قسرا تشعر بأنك هزمت ... وضائع في بيئة مجهولة بعيدة عن انتمائك ونقيضة تماما لكل معتقداتك ...هذا الهومسك الفلسطيني - العراقي المركب يعتقلك ويضعك خلف قضبانه الساخنة لفترة تحول رمادية قد تمتد لسنة ...
فتضعف الموجات وتهدأ ويخدعك سكونها فتظن انك تحررت من سجن الهومسك ... وما ان تصطادك لحظة استذكار مفاجئ للبيئة الاولى كصورة حبيب ميت او صوت عتيق او صديق تلتقيه صدفة فيشعل فيك اقاصيص الطفولة والمكان الاول .. حتى تعود الموجات العنيفة الى مربع الذات الاول ...فيعتقلك الهومسك من جديد , لفترة ... تماما كمن يلقي حجرا في مياه راكدة فتتحرك موجات متتالية متباعدة عن المركز, مكان الحجر .
طبعا للعمر تأثيره في اختلاف الموجات عنفا وقوة وحسا ..وسيكون التأثير اشد واكبر كلما خبر العمر حكمة السنين عمقا ....والاصابة بهذا الداء ... داء الوطن والحنين لمفرداته .. ليس له علاج دائم ونهائي ...انما هي مسكنات الم على اشكال مختلفة ... صرخة او دمعة او صورة او قصيدة او حتى كوابيس يومية او احلام وردية .... والا ...كيف ترسم شكلا لعرسك القادم مع حبيبة تركتها هناك وكلما صادفك شباك صدئ , تذكرت وجهها ؟!!
ما الذي يجعلك مثلا تفكر بامك التي ماتت منذ ربع قرن عندما يداهمك طيف محجبة عجوز تعبر الشارع ؟! ما الذي يجعل رائحة ما تعبق انفك صدفة وانت في الشارع , تعبر المحيطات بسرعة الضوءلتصل الى مكان ما في بغداد قصدته قبل عشرين سنة .. اكثر او اقل ؟؟!
لماذا تنتفض ويقشعر بدنك عندما تسمع من بعيد صوتا يشبه الاذان ؟؟!
دلني على رعد اقوى من وقع ذكرى مبهرة لك مع صديق عاصرتما معا تاريخا كاملا واكتشفت للتو انه مات مقتولا على يد الطائفيين الحاقدين ؟؟
ذكرني ان استطعت بشئ يجعل دموعك تنهمر فجأة غير تمعنك بصورة تبرز وجهك الطفولي في غرفة سكنتك وسكنتها ثلاثين سنة.... او ماء دجلة يمر تحت جسر انت فوقه تحتضن كتب المدرسة بيد والاخرى تعانق صديقا ينافسك التفوق ؟؟ هو ذا الهومسك .
وجه عتيق تعرفه ..رائحة ما تذكرك بأمك.. صوت لشئ بعيد...لحن حزين قديم ... شجرة ما ... نخلة سعفها يرتجف .. قطعة اثاث مهترئة ... اي شيء يشبه الوطن ... اي شيء يشبه العباءة ... اي شيء يصادمك ولا تهدأ بعده ... اي شيء ينقلك الى لحظة انتماء خرافية لمكان تداخلت خلاياك معه... هو ذا الهومسك ... لا تقل لي انك لم تصافه اينما كنت في الغربة ... انت لا تستطيع الهروب منه .... يلاحقك بكل الاتجاهات والعناوين وانت منفي ...فقط انتبه لذاتك ... لا تذهب بعيدا عنها .... ابحث عن اقرب مسجد ... واستكن اليه, ففي كل ركعة فيه ثمة ما يحيل اعاصير الغربة هذه الى طمأنينة وهدوء في الذات .... فحيث انت فلسطيني منفي من العراق .. لن تكون غيرك ... ولن يحيدك عن ذاتك الفلسطينية اي فراق ... وان ابعدوك الى القمر .. ستبقى انت هو انت ... به هم بدونه, هذا الهومسك اللصيق .. اللعين .تمسك بأيمانك .. وكرس الايمان في ذاتك .. ولا تبتعد عن الهدف : ان تكون نفسك القصوى في التوهج والامل ... فحيث انت تقيم منفيا او لاجئا او غريبا ستكون فلسطينيا لا يشبهك احد ..لأنك ولدت فلسطينيا ولن تموت الا وانت فلسطيني مسكون بشئ اسمه الوطن ...
اخيرا ان لم تمر بك هذه الاعاصير ... فقل لي..ارجوك.. كيف تجنبتك!!!
وان مرت بك وعاصرتها.... فقل لي... ارجوك... كيف تجنبتها!!!
أحمد ابو الهيجاء
8/5/2011
المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"