قصة شقائق النعمان الحمراء ج2- صالح صلاح سلمي

بواسطة قراءة 2907
قصة شقائق النعمان الحمراء ج2- صالح صلاح سلمي
قصة شقائق النعمان الحمراء ج2- صالح صلاح سلمي

لا تجلد نفسك فعلنا ما بوسعنا. وربما قسمتنا ان نعود الى الاهل, لكن اراك قد نزفت كثيرا. لم اتوقع ابدا انني ساجدك حيا, بعد ان تتبعت اثار الدماء خلفك, فعلا انك جمل الاحمال, مررت على شجرة زعتر في الطريق اصطبغت اوراقها بالدماء.و كان تحتها قط بري يلحس من بركة دمائك المتخثرة هناك. لقد روت دمائك الارض..

علينا ان نعجل اظن ان العدو سيتبعنا سيطاردوننا وربما هم يفعلون ذلك الان, بعد ان فتشوا المكان. يجب ان نصل الى النهر قبل الليل. واذا جاء الليل ونحن في هذه الغابة ستطاردنا الضباع وربما ذئاب, رائحة دمائك تملأ الاجواء. اعتمد علي يا اخي سنصل قبل الليل.         

فنهض الجريح متكئا" على رفيقه وتاركا" في المكان بقعة من الدماء قبل ان يقول: اشعر انني لن استطيع قدماي لا تحملانني. ومع وعورة  التلال قبل ان تشرف على السهل الممتد الى النهر بات متاكدا انه لن يستطيع المواصلة والعودة مع الرفيق فكان يجبرة على التوقف لمرات يستجمع فيها بعض قواه الخائرة. واكتشف ان تلك الفترات التي يحاول فيها التقاط انفاسه المتقطعة كانت تزيد نزف جراحه وتزيد قدماه تثاقلا.

فجثا الى الارض هذه المرة وهو يومئ براسه الى الاسفل ليبتلع ريقه ويستجمع الكلمات من حنجرته فتخرج متقطعة واهنة ليقول: لا لا لن ينفع ساسبب لك التاخير معي وربما تقع في الاسر. ارجوك اذهب انت وعد الى الاهل واتركني.

كانت كلماته تلك تتساقط الى مسامع رفيقه ونفسه كنبال وسهام تتساقط من كل حدب وصوب على جسد عار تحت الشمس . فكيف له ان يترك رفيقه ويؤثر السلامة , وانهمرت دموع الرفيق مدرارا وهو يحاول ان يستجمع الكلام  ويقول : لا.لا يمكن ان اترك ,سأحملك.نعم ساحملك وسننجوا, ارجوك ماذا اقول للاهل والابناء,ارجوك قبل ان يحل الظلام الشمس مالت للغروب , ساحملك.

 وبعد صمت استمر للحظات يحاول فيه استجماع كلامات قليلة وحازمة يخفف بها من معاناة انفاسه وجسده في الكلام قال لرفيقه: انت تعرف انك لن تستطيع حملي أتحمل جملا"  لساعات, انا الجمل اليس كذلك؟ ثم صمت قليلا قبل ان يقول : وحتى لو  لو كان ذلك اشعر انني لم يبقى لي  من العمر ساعات وانا احتاج الى الاسعاف المستعجل ان اردت الحياةه, النزيف يزداد الا ترى. وان بقيت معي او حاولت  ستقع في الاسر الم تقل ان العدو يطاردنا الان .

وبانفاس متقطعة وهم يتمدد على الارض واصل الكلام, اسمع اعطني اطلاقتين من ذخيرتك... وساطلقها في الهواء بعد ان تبتعد... فيستدل علي افراد العدو  . فيأتون لياخذوني الى الاسر وربما يسعفونني. ليحصلوا على معلومات تهمهم مني, ليس لي الا هذا... قال هذه الكلمات وهو يشك فيها ولا يحبذها ولكنه اراد ان يقنع الرفيق بتركه . 

وبعد طول جدال وانتظار اعطاه الرفيق اطلاقتين وضعهما له في بندقيته, وانطلق بعد ان ودعه باكيا ومبتعدا الى النهر وهو لا يدري ماذا يقول .

 كان لا يزال ممددا في ذات المكان  عندما اسند كعب بندقيته الى الارض واطلق اطلاقتين بينهما وقت قليل. فتطايرت بعض طيور اوت الى اعشاشها عند الغروب. مثلما خبت روحه بعدها فدخل في غيبة روح وفكر وهو مغمض عينيه وترائى له الكون كله والشجر والحجر اللذان يحيطان به  تدور في افلاك جنونية وهي  معلقة ومقلوبة الى الاعلى بينما هو ممدد على قعر السماء. وتفصد جبينه حبيبات عرق خالطت دمائه التي لوثت كل شئ حتى وجهه وهو يمسح بيده في غيبوبة الدماء.

 ولم يشعر بالمحسوس والمعقول من هذه الحياة الا بعد ان فتح عينين مرة اخرى  لم تسعفانه بشئ الا اشباح الشجيرات والصخور تترائى له في خلوة الظلام. ودخل في صحوة العقل وربما كانت صحوة الممات.

 وادرك ان الشمس قد غابت تماما خلف التلال  وان احدا" لن ياتي لاخذه او اسعافه حتى ذلك العدو.

وفي حلكة الظلام والوحدة استذكر الاهل والابناء وتمنى لو انهم يرونه الان وهو يموت وحيدا وشهيدا مجهولا.

وشعر بأسى" كبير من ان الاهل  سيظنونه اسيرا كما سيخبرهم  الرفيق الذي عاد. وستبقى قلوبهم معلقة بذكراه واعمالهم موقوفة لعودته وسيعيشون على امل لقائه لسنوات . بل لن يفقدوا الامل نهائيا". وربما يتهمون العدو بقتله من غير ادلة ولمجرد حكايات.

ثم غاب قليلا لمرات قبل ان تنشرح نفسه وتتراضى بالقضاء  فاحس انه يموت على الارض التي تمنى الموت عليها واحس بشئ من الفخر والرضا, وقرر ان عليه ان يتولى امر نفسه ويهيء لنفسه مهدا ويدعو في نفسه بعض ادعية تعينه على الثبات.

وهبت نسمات هواء احس بها بارده، وحملت في ثناياها روائح شتى كان ابرزها  رائحة انتزعتها النسيمات من شجيرة زعتر فهفت لها روحه الافلة بدون مقدمات وتذكر امه والارض والتلال. 

واصبح الهم والثبات ان يصل براسه المدمى الى تلك الشجرة التي اسعفته بقايا ذاكرة انها على بعد خطوة واحدة من راسه .

وفي ظلمات الليل والوحدة والموت التي يصارعها الان اصبح لديه عملا يقوم به, ويؤكد به حبه للارض التي عشقها. بدلا من السكون الموحش في انتظار الموت والذي ظنه حتميا الان بعد ان احس ان دمائه قد تصفت وانه يفترش بقعة كبيرة من الدماء وان سنة الموت بدأت تسير في جسده عرقا" عرقا.

وكم كانت شاقة شديدة تلك اللحظات وربما الساعات والتي قضاها ليسحب جسده المحتضر ويصل برأسه ليتوسد الزعتر فكان بالنسبة اليه الوطن فالحياة.

وبعد طول معاناه ذوت العروق منه فغاب ثم عاد. وكان قادرا" على القيام بهذا العمل لو استمر الدهر كله فهو بالنسبة اليه الان ان الدهر كله هو تلك اللحظات والتي يراها خاطفات.

وفي بقايا وجود تلاشى او يكاد ظن انه احتضن براسه وتوسد الزعتر, فتشهد في ثبات ولمرات قبل ان يلفظ انفاسه وتخرج روحه.. وبقيت عيناه مفتوحتان وكأنهما تنظران الى تلك العينين اللتين تلمعان في الظلام لضبع مخطط وقف للتو عند قدميه...

وعند الفجر كانت  طيور كثيره تحف بالمكان. ووقف غراب اسود فوق شجيرة الزعتر يراقب قط بري يسف بعض دماء مع التراب.

وبعد زخة مطر في عز الصيف كانت  بذور شقائق النعمان الملتصقة بفراء قط بري وسقطت فوق بقعة الدماء وهو يلحسها مع التراب قد انبتت في المكان وازهرت ثلاث وردات حمراء.

 

صالح صلاح سلمي

8/5/2011

 

المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع

"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"