قال لي ...... أتمنى منك سرد حكايتي هذه ... فقلت له ... بكل سرور ... هات ما عندك ... فقال : كان ذلك قبل ما يقارب الستة أعوام حيث كنت معتاد على الذهاب صبيحة كل يوم الى عملي بعد إيقاظ أولادي الثلاثة وذهابهم إلى مدارسهم .. والسؤال اليومي الروتيني الذي كنت أسأله لزوجتي عن طبيعة المشتريات التي تريدها والمتعلقة بوجبات الغذاء وغيرها ... كنت دائما أحرص على كثرة الاتصال بزوجتي للسؤال عن أولادي وعن أي مستجدات قد تكون حدثت في المنطقة التي أسكن فيها حيث أن الوضع الأمني بدأ يزداد سوءا يوما بعد يوم في بغداد بعد انتشار ما يسمى ( فرق الموت ) .. كان يوما مثل باقي الأيام ... حينما كان المذيع يقرأ نشرة الأخبار التي كان يتصدرها خبر العثور على أربعة وعشرين جثة مجهولة الهوية في عدة أحياء من بغداد ... لقد أصبح مثل هكذا خبر يتصدر نشرات الأخبار اليومية مع اختلاف في أعداد الجثث التي يعثرون عليها هنا وهناك ... يومها اقتربت الساعة من الثالثة ظهرا وبدأت بالاستعداد للعودة إلى المنزل ... اقتربت من سيارتي وبدأت بوضع المفتاح في باب السيارة لفتحها ... وإذا بأربعة أشخاص يحاصروني .. وشددوا الخناق علي وأمرني أحدهم بإعطائه مفتاح السيارة وأن أجلس بالمقعد الخلفي ... وحينما أردت سؤالهم والاستفسار عن هوياتهم ... وقعت عيناي على المسدسات التي أشهروها تجاه جسدي فاضطررت للامتثال لأوامرهم ... وجلست في المقعد الخلفي بين اثنين منهم حيث كان الثالث يقود السيارة والرابع الى جانبه ... كنت مبهورا ... ماذا يريد هؤلاء من انسان بسيط بالكاد يستطيع الحصول على قوت يومه له ولعائلته ... حتى سيارتي القديمة لا تسر الناظر إليها .. وجمعت قواي وبدأت بطرح الأسئلة ماذا تريدون مني ؟؟ أنا مجرد عامل ... لا أملك ما تريدون ... فضربني أحدهم على بطني وقال اخرس أيها الإرهابي ... واخفض رأسك بسرعة إلى جانب قدمي ... وإلا أفرغت المسدس الكاتم بقلبك .... لحظتها بدأت صور أولادي وزوجتي تتحرك بسرعة هائلة في مخيلتي وهم يبكون ويصرخون ... والحيرة قد ملأت وجوههم ... فإنهم لم يعتادوا على تأخري للعودة إلى المنزل ... إلى أحضانهم ... للجلوس والتحدث معهم ومساعدة أولادي في كتابة واجباتهم المدرسية ,,,, ولكن انقطعت تلك الصورة من مخيلتي على صوت أحدهم .. قائلا هيا أيها الإرهابي انزل ... وحينها وجدت نفسي داخل مرآب (كراج) مغلق للسيارات ... ثم ركلني أحدهم بقدمه على بطني قائلا: هيا تقدم ... ادخل أيها الفلسطيني الإرهابي المجرم ... فصرخت بوجهه مدافعا عن نفسي ... أنا لست مجرما ولست إرهابيا ... فضربني أحدهم على رأسي بقبضة يده .. ثم قال لأحدهم .. أحضر المثقاب الكهربائي ( الدريل ) لكي نعرف .. هل هو إرهابي أم لا .... ثم أجلسوني على إحدى الكراسي وقيدوا يداي للخلف بسلاسل من الحديد القوي حتى شعرت أن كفي سينفصل عن ذراعي من شدة القيد ... ثم قاموا بتمزيق قميصي .. وبدأ أحدهم بتشغيل المثقاب الكهربائي وقال لصاحبه أحضر الأوراق وهات القلم ... ثم قال لي : والآن أيها الفلسطيني الإرهابي سوف توقع على تلك الأوراق ... وهي اعترافاتك بالأعمال الإرهابية التي قمت بها من قتل وتفجيرات هنا وهناك في بغداد... هيا فك قيده لكي يوقع ... ونظرت اليه وقلت له : لن أوقع على أي شيء فأنا لم أرتكب أي شيء مما تقوله ... لحظتها قام بتشغيل المثقاب الكهربائي واقترب من فمي ووضعه على أسناني ... التي سرعان ما انكسرت وتفتتت وأصبحت مثل ذرات الطحين.. وبدأ الدم يسيل من لساني الذي جرح ... ثم وضع المثقاب على قدمي وبدأ يثقبها ... وأنا أصرخ من شدة الألم .. حينها ومع كل صرخة كنت أشاهد دمعة زوجتي وأولادي من حولها يبكون .. ومع كل صرخة من شدة الألم الذي كان يحدثه المثقاب في كل مكان من جسدي كنت أشاهد أمي وأبي وهما يصليان ... ويبتهلان لله عز وجل بأن أعود سالما ... ومع كل صرخة من شدة الألم .. كنت أشاهد أخي وابن عمي وابن خالي وصديقي وجاري يبحثون في كل مكان من بغداد لعلهم يروا بارقة أمل في العثور علي سواء في مراكز الشرطة أو ... أو .... في إحدى ثلاجات الطب العدلي بين الجثث ... ثم ... وبعد أن أجبروني على التوقيع ... وقاموا بالاتصال هاتفيا بزوجتي لطلب الفدية .. مقابل إطلاق سراحي .... رفع أحدهم مسدسه تجاه رأسي ... وحينها نطقت بالشهادتين وبصوت مسموع ... وانطلقت رصاصات ثلاث واخترقت رأسي .. وحينها سقطت أرضا ... والدماء تسيل من رأسي بغزراة ... ورأيتهم يحملون جسدي ويضعوه في سيارة نقل صغيرة ( بيك أب) ثم بدأوا بالتجوال في إحدى الشوارع وسمعت أحدهم يقول للناس المتجمهرين ... أيها الناس انظروا إلى جثة هذا الإرهابي المجرم الفلسطيني.. لقد أمسكنا به .. وهكذا هو مصير كل من يقوم بقتل أحبائكم وهذه أوراق اعترافاته بكل جرائمه ... نعم لقد سمعته يقول ذلك وسمعت صوت تصفيق الناس لهم ... ثم احتسبت لله عز وجل ... وبعد ذلك حملني اثنين منهم وقذفوا بجسدي الى أحد أرصفة الشوارع .. ثم بعد ما يقارب الليلة وجزء من النهار لليوم التالي رفع جسدي من على ذلك الرصيف رجال الشرطة الذين قذفوا بي إلى إحدى ثلاجات الطب العدلي بعد أن وضعوا رقما على يدي والتقطوا لي بعض الصور ... وبعدها بدأت تنهال الجثث ... وفي نفس الثلاجة ... وتوضع فوق بعضها البعض ... وأحيانا يتم سحب الجثث لكي يتعرف أهلها على من يبحثوا عنه ... إلى أن جاء ذلك اليوم الذي عثر فيه أخي وابن عمي وابن خالي وصديقي وجاري على جسدي ... رأيتهم وابتسمت .. ثم بعد أن أكملوا اجراءات استلامي والتي كانت معقدة جدا لأني فلسطيني .... والفلسطيني محرم عليه تسليمه لأهله ... إلا إذا تم تغيير جنسيته على الأوراق .. وهذا ما حصل ... وبعد فترة شاهدت أبي وأقربائي وأصدقائي وجيراني يضعوني في أحد التوابيت .. ورأيت أمي وزوجتي وأولادي لآخر مرة وهم يبكون والدموع تنهمر بغزارة من أجفانهم جميعا وكانوا قد طبعوا قبلتهم على جبيني وقاموا باحتضان التابوت وهم يصرخون ... وبعد ذلك تم وضع جثتي تحت التراب في إحدى مجنات بغداد ... ثم تركوني ورحلوا ... لم يرحلوا فقط من المجنة إلى البيت فحسب ... بل غادروا إلى المخيمات التي انتشرت في أماكن عدة ... هربا من الغدر ... وأرغب أن أقول لهم من خلال سردك لحكايتي هذه أنني أدركت أنكم انتشرتم بين القارات .. زوجتي وأولادي في آيزلاند ... وأبي وأمي في أستراليا ... أخي في السويد ... ابن عمي في البرازيل ... وابن خالي في الولايات المتحدة .. وتركتوني وحيدا في بغداد... وأدرك تماما أنكم انشغلتم بالحياة ومتطلباتها والمعيشة الصعبة .. ولكني أطلب منكم ألا تنسوني ... وأن تدعوا لي دائما .. رغم أني أدرك أنكم لم ولن تنسوني .. وأنا لم ولن أنساكم ... لن أنساك يا زوجتي الحبيبة ... ولن أنساكم يا أولادي وفلذات كبدي ... ولن أنسى أحبتي .. أما أنت يا أبي وأنت يا أمي ففي قلبي محفورين أنتما دوما ... فهل عرفتم الآن حكايتي ومن أكون ... ؟؟؟؟ وما عانيت ... ؟؟؟ .
وشكرا جزيلا للأخوة الأعزاء القائمين على هذا الوطن الرائع بكل ما تعنيه الكلمة وبارككم الله ووفقكم .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
أخوكم خالد نواف أبو الهيجاء
أبو سيف
ولاية تكساس - مدينة هيوستن
الولايات المتحدة الأمريكية
30/5/2012
المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"