لم يؤد الاحتلال الأميركي للعراق إلى نتائج سلبية بحق بالعراقيين فقط، الذين دمرت دولتهم وتباعدت طوائفهم، بل تعداهم إلى من يسكن العراق كالفلسطينيين الذين لجؤوا لهذا البلد العربي قبل حوالي ستين عاما، هربا من ممارسات ومجازر التنظيمات الصهيونية ضدهم في عام 1948، ولحق بهم إرهاب فرق الموت العراقية لإجبارهم على الرحيل عن أماكن لجوئهم في عام 2007.
من المعروف أن الفلسطينيين، الذين كان عددهم خمسة آلاف فلسطيني عند بداية وصولهم إلى العراق، وأصبحوا حاليا عشرين ألف، قد جاءوا من قرى منطقة مثلث الكرمل بعد استيلاء العصابات الصهيونية عليها. إذ تعاطفت القوات العراقية التي شاركت في حرب فلسطين، مع مأساة الفلسطينيين، ورحبوا بهم لكي يكونوا ضيوفا على الحكومة العراقية. ونقلت العائلات الفلسطينية بآليات عراقية إلى بغداد، بينما بقي الشباب منهم يقاتلون تحت إمرة الجيش العراقي، والتحقوا بعد انتهاء الحرب بعائلاتهم.
بعد وصول اللاجئين الفلسطينيين إلى العراق، أصبحوا تحت رعاية وزارة الدفاع العراقية، حيث تم توزيع سكنهم في المقرات الحكومية، وعلى مناطق بغداد والموصل والبصرة. وصدر في عام 1964 قرارا بمعاملة الفلسطينيين في العراق معاملة العراقيين في الوظائف الحكومية من حيث الرواتب والعلاوات. وبعد وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1968، أصدر مجلس قيادة الثورة العراقي، قرارا بإنشاء مجمعات سكنية شعبية تتوفر فيها كافة الشروط الصحية، وتبقى هذه الدور ملك للدولة يتمتع الفلسطيني بمنفعتها مادام موجوداً في العراق/ وبمساواة الفلسطينيين بالعراقيين عند التعيين والترفيع، إلى حين عودتهم إلى ديارهم.
كما صدر قرار آخر في عام 2001 نص على معاملة الفلسطيني المقيم إقامة دائمة في العراق، معاملة العراقيين في جميع الحقوق والواجبات، باستثناء الحق في الحصول على الجنسية العراقية. إلا أن الفلسطينيين في العراق لم يقدر لهم الاستفادة من القرار سوى عامين، إذ احتلت العراق بعد ذلك، وفقدوا مع الاحتلال جميع المكاسب التي حصلوا عليها منذ لجوئهم.
لقد عانى الفلسطينيون في العراق، خلال سنوات الاحتلال الأميركي الأربع الماضية، شتى أنواع التعذيب والقتل والخطفٍ والتهديد بالطرد والخوف، كما أصبحوا مستهدفين لكونهم فلسطينيين من قبل فرق الموت العراقية. وتدهورت حياتهم وبشكل خاص، منذ بداية حكومة الجعفري، بسبب سياسة التحريض المبرمجة ضدهم من قبل بعض المسؤولين العراقيين القياديين، بحجة أنهم أي الفلسطينيين محسوبون على النظام العراقي السابق، ما أدى إلى قتل وتشريد وفقد العشرات منهم، فقد بلغ عدد القتلى والمفقودين في العراق من الفلسطينيين في العام الماضي، ما يقارب 536 مواطنا فلسطينيا، واعتقال 62، واختطاف 22، وجرح وإعاقة 140 فلسطيني.
لم تأت تلك الممارسات ضد الفلسطينيين من قبل بعض المليشيات العراقية فقط، بل تعرض الفلسطينيون كذلك في أماكن سكناهم في بغداد، إلى المداهمات والتفتيش على يد قوات الاحتلال الأميركي. وقام جنود أميركيون بتحطيم أثاث المنازل التي فتشوها واعتقال فلسطينيين من بينهم نساء. مما يذكر الفلسطينيين بممارسات جيش الاحتلال "الإسرائيلي" ضد إخوانهم الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية.
ودفعت تلك السياسات المبرمجة والممارسات الفلسطينيين في العراق إلى ترك منازلهم ومناطق سكناهم والهرب إلى خارج العراق، بانتظار إيجاد مكان آمن لهم للعيش، لحين حل مشكلتهم، تماما كما حدث معهم قبل عشرات السنين على أيدي "الإسرائيليين"، وهذا يتناقض مع الإشاعات التي ظهرت في السنوات الأخيرة، تتحدث عن احتمال توطين اللاجئين الفلسطينيين الموجودين في لبنان ومناطق أخرى في العراق. ولكن يبدو أن تلك الإشاعات، لم تكن على علم بالمصير الذي سيلاقيه الفلسطينيون في العراق، الذين طالبوا بنقلهم إلى الأراضي الفلسطينية، هربا من الاعتداءات التي يتعرضون لها. إلا أن سلطات الاحتلال "الإسرائيلي" ترفض عودتهم إلى ديارهم، أو السماح للسلطة الوطنية الفلسطينية باستقبالهم في الأراضي الفلسطيني.
وكأن التراجيديا تلاحق الفلسطينيين باستمرار، من الصحراء الليبية حيث مكث الفلسطينيون الذين طردوا من ليبيا سنوات في الصحراء الحارقة وبظروف صعبة، ولجأ البعض منهم إلى العراق، إلى الفلسطينيين الذين كانوا في الكويت ولجأ البعض منهم أيضا إلى العراق. الفلسطينيون في العراق الآن الذين لا يجدون لهم مكانا آمنا يلجأون إليه. وبدلا من عودتهم التي طال انتظارها إلى ديارهم في فلسطين، يقترح البعض نقلهم إلى منطقة كردستان في شمال العراق.
لا شك أن منظمة التحرير الفلسطينية تتحمل مسؤولية حماية الفلسطينيين في العراق، وعليها الطلب مباشرة من السلطات الأميركية بحمايتهم، أو الضغط على "إسرائيل" لإعادتهم إلى ديارهم، بدلا من البحث عن أماكن جديدة لهم للجوء في الولايات المتحدة أو كردستان. أما الطلب من الحكومة العراقية حماية الفلسطينيين، فهو بعيد عن الواقع، لأنها أي الحكومة العراقية عاجزة عن حماية العراقيين أنفسهم. ولن تنفع الدعوات لإطلاق الفتاوى بتحريم قتل الفلسطينيين، لأن تلك الفتاوى لم تنفع بوقف الاقتتال بين العراقيين أنفسهم. وكذلك الأمر، دعوة البعض إلى نقل الفلسطينيين من بغداد إلى كردستان في شمال العراق، لأن ثمن ذلك سيكون فتح مكتب قنصلي للمنظمة في كردستان، مما يعني اعترافا فلسطينيا بانفصالها عن الأراضي العراقية. وفي حال حدوث ذلك، من المؤكد أنه سيؤدي إلى اتهام الفلسطينيين ومنظمة التحرير، بأنهم اعترفوا بالوضع القائم في تلك المنطقة، وبانسلاخها عن الوطن العراقي.
الفلسطينيون في العراق هربوا من ديارهم قبل أكثر من نصف قرن، خوفا على حياتهم من العصابات الصهيونية، وكانت فلسطين تحت الاحتلال البريطاني، وهاهم الآن يهربون - من منازلهم- من التهديدات بقتلهم والاعتداء عليهم، والعراق خاضع للاحتلال الأميركي.
المأساة أن الفلسطينيين -في المرة الأولى- وجدوا من استقبلهم ورحب بهم، ولكنهم في هذه المرة أغلقت الحدود في وجوههم، ولم يجدوا من يستقبلهم، وهذا في حد ذاته، مأساة جديدة تضاف للمآسي التي يعاني منها اللاجئون الفلسطينيون .
المصدر : جريدة الغد
1/12/2011