دعونا نختلس من الماضي – عماد أبو السعود

بواسطة قراءة 1929
دعونا نختلس من الماضي – عماد أبو السعود
دعونا نختلس من الماضي – عماد أبو السعود

كان يا مكان في قديم الزمان .. أيام ماتت وما عادت تنعاد .. كان كل شيء فيها جميل رغم بساطته .. كانت الساعة تعادل نصف اليوم .. برد الشتاء يستحي من اجسادنا حين ترتجف .. وشمس الصيف لا تستطيع أن تمنع عنا شرب الشاي الساخن .. كان ( الطشت ) المملوء بالماء البارد راحة اقدامنا بعد التعب من حرارة الصيف وشدة العمل .. في الشتاء يتعانق الماء الساخن مع الملح في ( الطشت ) ليزيل برودة الجو مع الارهاق .. زمان كنا لا نعرف نوم الضحى وكان الفجر ساعة الاستيقاظ .. كانت زجاجة ( الببسي ) الباردة من العم أبو طلال ( رحمه الله ) مع قطعة الكيك أجمل وجبة ونحن نتاولها مع الابتسامات البريئة بين الأصحاب .. أعظم حلويات سويسرا لم تعوض قطعة البسبوسة ( الهريسة ) من عربة العم أبو ياسين وهو أمام الفرن .. لفة الفلافل من العم صابر وأبو موسى أغلى من كباب زرزور .. كانت الحارات جميلة لا يحدها اسلاك شائكة ولا قواطع كونكريتة .. حافلة نقل الركاب أم الطابقين تسير بنا الى جامع بنيه في العلاوي لنتعلم حفظ القرآن على يد الشيخ محمود غريب .. كنا نقف عند سكة القطار نلوح بايدينا للمسافرين الى البصرة .. واليوم لا نستطيع توديع من يسافر الى أبعد القارات .. مساء الجمعة محلات العم صابر والعم غازي للحلاقة مملوءة استعداد لدوام المدارس صباح السبت ..كنتُ أنتظر ساعة العصر قدوم الجد توفيق الأسعد ( رحمه الله ) الى بيتنا لأقدم له فنجان القهوة حينها يُخرج من جيبه العشرة فلوس ويضعها في جيبي فقد كانت أغلى من دولارات اليوم ..عُرس في الحي .. منذ أسبوع والبيوت تتهيأ له .. تتهافت الاصوات .. حمام العريس في بيتي لا بل في بيتي انا .. نجتمع ليلة الحنا ننشد للعريس ونفرح وليلة الزفة الخالة أم العريس تعمل بيديها الكريمة غداء العرس والجميع يأكل ولا يستثنى أحد .. ذات مساء عند العشاء أطلب الطعام من والدتي فتطلب مني أن أذهب الى جيراننا وأسأل العم أبو مصطفى زيدان الغزاوي ( رحمه الله ) حيث كان يجهز الدكاكين بالصمون الكهربائي عن بعض الصمون المتبقي .. فينهض ويملئ الكيس بالصمون .. ايام جميلة رغم بساطتها .. كان موت الشاب أو حتى الأقل من الخمسين ليلة زلزال في المنطقة .. الكل يبكي ولا نعلم المتوفي أقارب من .. الخيمة تنصب وتملئ بالكراسي دون أن نستأجر شيء .. لم نكن نعلم يوما أن الموت يأتي على أيدي ( الزعاطيط ) .. اليوم يموت الإنسان غريب .. ولو استطاع أن ينهض لكان سؤاله للذين يمشون في جنازنه من أنتم ؟ أخيه الذي كان رفيق عمره يسمع خبره على النت .. أي وقت هذا ؟ حتى في زواجه أرسل الأب بطاقة تهنئة على احد المواقع .. بعد أن كان فرحا في عرسه .. زمان كان كل شيء جميل رغم بساطته واليوم أصبح القبيح رفيق ايامنا .. كان الدينار يحترمنا ونحن لا نحترمه .. اليوم نقدم له التضحيات من أجل أن يسكن جيوبنا .. زمان نحس بكفيف البصر وكأننا نحن ونقدم له الخدمة .. اليوم نراه من بعيد ونقول ( مرتاح ما شايف وساخة الدنيا ) .. كنا نندهش عندما يزورنا شخص من الخارج .. اليوم أصبح الخارج يشمئز منا .. زمان لم نعرف الجوع رغم اننا لم نأكل الكنتاكي والموز والأناناس .. اليوم نأكل كل شيء ونشعر بالجوع .. زمان كنا نرتدي الملابس العادية في الشتاء وحرارة صوبة علاء الدين تكفينا دفء .. اليوم ملابس من صوف ومن الجلد الطبيعي والفرو يلف اعناقنا والبرد يخترقنا ومدافئ الكهرباء السريعة لا تُسعفنا .. زمان كانت المشكلة الصغيرة مع الصديق تجعلنا نخجل عندما نلاقيه رغم انها لم تكن تؤذيه ولا نجعلها تطول لحظة .. اليوم نعمل المستحيل من أجل الانتقام حتى لو كلف الأمر قتله ونحن نبتسم ... تعالوا نعود الى الماضي خلسة ونسرق كل شيء جميل ونزرعه في أيامنا هذه .. قبل أن تسرقنا أحداث الأيام ولا نستطيع أن نجد أنفسنا ..

 

عماد أبو السعود

15/3/2012

 

المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع

"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"