المسجد الأقصى الحقيقة الغائبة

بواسطة قراءة 2063
المسجد الأقصى الحقيقة الغائبة
المسجد الأقصى الحقيقة الغائبة

الحمد لله الذي في السماء تعالى وتقدس، واصطفى من البقاع ِ الحرمين الشريفين والبيتَ المقدس، أحمده وأشكره وأستعينه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.

( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ).[1]

فإن الله سبحانه وتعالى لحكمة ربانية ومنحة إلهية، يُحب ويصطفي من خلقه ما شاء من الرسل والأنبياء، والبلاد والبقاع، ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ )، وإن مما اجتباه الله وقدسه وشرفه، وعظَّمه وكرَّمه، المسجدُ الأقصى وقُدسَه المُقدس، وإرث الأمة الخاتمة الذي يسكن قلب كلِّ مسلم، الحديث المتجدد الغائب الحاضر، القديم الحديث!

ذكره الله في القرآن الكريم بلفظ التقديس والأرض المقدسة والمسجد الأقصى، وباركه الله وبارك ما حوله، ففاضت بركته الدينية والدنيوية، وأقسم الله بثمرته فقال ( والتين والزيتون ) إشارة إلى المسجد الأقصى.

فالمسجد الأقصى أول قبلة للمسلمين، وثاني مسجد وضع في الأرض بعد المسجد الحرام، وثالث المساجد التي يُشد إليها الرحال، وأحد أربعة مساجد لا يدخلها الدجال في آخر الزمان، مسرى النبي عليه الصلاة والسلام ومعراجه إلى السموات العلى، فيه تُضاعف أجور الصلوات، وفيه صلى نبينا عليه الصلاة والسلام إماما بجميع الأنبياء.

بورك فيه وبمن حوله، ويرجى لمن صلى فيه أن يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وبيت المقدس مبتغى الفاتحين وفيه رباط المجاهدين، وهو محل الطائفة المنصورة التي تقاتل على الحق، ظاهرين على من ناوأهم.

بيت المقدس مهد الرسالات ومهبط الوحي ومعدن الأنبياء ومنبرهم للدعوة إلى توحيد الله، وقبورهم فيها وقد بشر النبي عليه الصلاة والسلام بفتحها، وما فيها موضع شبر إلا صلى عليه نبي مرسل أو قام عليه مقرب، وهي أرض المعجزات والبشارات والكرامات، ومهاجر الأنبياء وأتباعهم إلى قيام الساعة، وفيها يُحسم الصراع بين الحق والباطل ويُقتل المسيح الدجال، وهي أرض المحشر والمنشر، وفيها تُليت الكتب المنزلة الأربعة التوراة والإنجيل والزبور والقرآن.

الحقيقة الكبرى والقضية العظمى، التي ينبغي أن ترسخ وتثبُت في عقول وأذهان بل وقلوب المسلمين، ولا ينبغي التهاونَ فيها أو إغفالها والذهولِ عنها تحت أي ظرف؛ أن قضية الأرض الطيبة المقدسة المباركة هي قضية أمة بالكامل، منذ أن أوجد الله الخليقة على وجه الأرض حتى قيام الساعة، لأنها مرتبطة ارتباطا وثيقا برسالة التوحيد في بداية الزمان ووسطه وآخره.

إن ارتباط المسجد الأقصى بالمسجد الحرام ارتباط أزلي، قال سبحانه ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )، قيل: لو لم تكن فضيلة إلا هذه الآية لكانت كافية، وبجميع البركات وافية.

أول مدينة عرفت التوحيد مكة المكرمة، قال تعالى ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ )[2]، ومدينة القدس ثاني مدينة عرفت التوحيد، كما رجح الحافظ ابن حجر أن المسجد الأقصى وضع وبني بناء تأسيس وابتداء في عهد آدم عليه السلام.

أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عندما سأل النبي عليه الصلاة والسلام قلت : يا رسول الله ، أي مسجد وضع في الأرض أول ؟ قال : ( المسجد الحرام ) . قال : قلت : ثم أي ؟ قال : ( المسجد الأقصى ) . قلت : كم كان بينهما ؟ قال : أربعون سنة.

والقدس مدينة عريقة تاريخها مجيد( ذلك لأنها صمدت لنوائب الزمان بجميع أنواعها، وطوارئ الأحداث بجميع ألوانها. حتى لم يبق فاتح من الفاتحين، أو غاز من الغزاة المتقدمين والمتأخرين الذين صالوا في هذا الجزء من الشرق، إلا ونازلته، فأما أن يكون قد صرعها، أو تكون هي قد صرعته ).[3]

إن الحقيقة العظمى التي يراد لها أن تضيع وتضعف وتضمحل وتُنسى، في نفوس وقلوب الأجيال؛ أن المسجد الأقصى ولاء شرعي وإيمان وعقيدة، وأنه ارتباط تاريخي وأمانة ووديعة، فقد هاجر إليه إبراهيم عليه السلام وأسس مجتمعا قائما على توحيد الله وتحقيق العبودية، وحصلت له العديد من البشارات والمعجزات.

وتبع إبراهيم ذريته إسحق ويعقوب حتى دُفنوا في فلسطين، وتعلق بتلك الأرض يوسف وأوصى بنقل جثمانه ودُفن في نابلس، وكان لموسى عليه السلام ارتباط وثيق وتعلق عجيب بتلك الأرض المباركة، حتى قصدها مع قومه بعد نجاتهم من فرعون وجنده، وسار لفتحها وتحريرها من العمالقة الجبارين الوثنيين، إلا أن قومه خذلوه فعاقبهم الله بالتيه أربعين سنة، وأوصى موسى عليه السلام بدفنه قرب الأرض المقدسة رمية بحجر.

ذهب الجيل المُخَذِّل وقادهم يوشع عليه السلام لفتح بيت المقدس، وحصلت معجزة فريدة نادرة عبر التاريخ، بأن توقفت الشمس عن الغروب وحبست حتى تمكنوا من الفتح، وأقام داود عليه السلام مملكة التوحيد في بيت المقدس وتعبد فيها وحصلت له العديد من المعجزات، وسليمان حياته كلها معجزات في الأرض المباركة.

وهكذا زكريا ويحيى ومريم وعيسى عليهم السلام، كانت لهم صور مشرقة ومواقف مليئة بالعبر والمواعظ في تلك الأرض المقدسة، وحصلت لهم معجزات متنوعة وكرامات، في دلالة واضحة بأن هذه الأرض إرث للأنبياء وأتباعهم ينبغي المحافظة عليها وحمايتها من كل ظالم ومغتصب وحاقد.

إن معجزة الإسراء والمعراج تلك الرحلة العجيبة والحادثة المبهرة، التي هي ليلة مقدسية بامتياز وأسعد ليلة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام؛ جاءت لتؤكد هذه الحقائق وتُثَبِّت الحق الشرعي لقيادة الأمة لهذا المسجد المبارك، وأحقيتها التاريخية والشرعية بتلك الأرض المباركة، وتسلمها إرث الأنبياء وتحملها المسؤولية وعدم التفريط بها.

إن ليلة الإسراء جمعت وربطت عظائم الأمور؛ إذ جمعت بين بقعتين مقدستين، ومدينتين عريقتين، ومسجدين شريفين وقبلتين للمسلمين، كما جمعت واختصرت الزمان بحدوثها بجزء يسير من الليل، وجمعت بين الأرض والسماء، وجمعت كل الأنبياء إذ صلوا فيها بتلك الليلة مأمومين بالنبي عليه الصلاة والسلام، ثم اتوكيد هذه الأمور العظيمة رُبط البراق في الحلقة التي يربط بها الأنبياء دوابهم مع أنه مأمور ولا يحتاج لذلك، لكن لتوكيد هذه الروابط والوشائج المهمة.

ينبغي تعليم الأجيال وترسيخ هذه الحقائق المتعلقة بمقدساتنا، وبذل جهود مضاعفة للحفاظ عليها واستذكارها وإظهار فضائلها  ونشرها على كافة المستويات والأصعدة، وبذل كافة الأسباب العملية الممكنة لنصرة أهل فلسطين ودعمهم بكل ما يعينهم على الثبات والصمود في مواجهة أعتى احتلال عرفه التاريخ.

إن ما حصل من أحداث خطيرة وانتهاكات متتابعة لمسجدنا الأقصى وعنوان عزنا ورفعتنا وإغلاقه ومنع الصلاة فيه من قبل اليهود الصهاينة الغاصبين في الأيام الماضية؛ لسابقة خطيرة ومؤشر واضح لفرض سياسة الأمر الواقع وبداية لتهويد المقدسات بمرحلة متقدمة واستهانة بأمة المليارين.

إن المسجد الأقصى مسجدا كما سماه الله، لتحقيق وتأدية الشعائر والعبادات لله عز وجل، وهو إرث للمسلمين وملك لهم وسيبقى كذلك لا تغيره الأحداث الطارئة ولا السياسات المضطربة ولا القوانين العاجلة ولا الإجراءات الهمجية التعسفية، وإن ما وضعته قوات الاحتلال من بوابات ألكترونية عند أبوابه وسرقت مفاتيح المسجد الأقصى، هو احتلال جديد واغتصاب مفضوح وسيطرة تخالف شريعتنا وديننا وعقيدتنا بتلك الأرض، كما تخالف كل الأعراف والقوانين الدولية التي تنص على إدارة المسجد الأقصى وشؤونه من قبل الأوقاف الإسلامية في الأردن، في ظل احتلال آثم غاصب مجرم.

إن تلك الأحداث المتسارعة لمسرى حبيبنا ونبينا عليه الصلاة والسلام، لكفيلة بإيقاظ الأمة وتحريكها وتوحيدها لما فيه خير ونصرة ورفعة وعزة، كما أن أعظم تحدٍ يواجه الأمة إزاء تلك القضية المهمة هو السكوت وانتزاع الولاء الشرعي والحب الإيماني والارتباط العقدي من نفوس المسلمين، وانشغالهم بأمور استهلاكية وتفاهات تصدر لنا من قبل الأعداء!

وفي خضم هذا الذل والهوان والغثائية المهلكة التي نمر بها، عليك أيها المسلم وأيتها المسلمة واجبات ومهام ومواقف تجاه أول قبلة للمسلمين، فما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة، وإن الذنب الذي نرتكبه يؤخر النصر علينا ويزيد من جرأة أعدائنا، لأن ربنا قد وعدنا وأخبرنا بقوله ( ولينصرن الله من ينصره ) ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) ولا يقول قائل أنا فقير ليس لدي مال أنفقه، أو أنا ضعيف ليس لدي جهد أبذله، أو أنا غير متعلم وهلم جرا، فهلا تأسينا بالنملة عندما أحست بالخطر القادم أنذرت قومها وقد قص الله علينا هذا الحدث وأعلى ذكرها فقال عز وجل ( حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ) فأخبرنا سبحانه بأنها نملة نكرة يعني أي نملة ليس لها منصب ولا مكانة ولا جاه ولا أبهة فتأملوا!! 

على جميع المسلمين تثقيف جميع الأجيال وغرس حب القدس وفلسطين في نفوسهم وقلوبهم، واستشعارهم بالمسؤولية الملقاة على عواتقهم، ونشر فضائل المسجد الأقصى وإظهار المخاطر المحدقة به، وأنه آن الأوان ليكون لكل فرد مسلم دور في هذه القضية، وأن لا نتواكل لأمور استهلاكية أُغرقنا فيها وأشغلنا، حتى أضعنا ثوابتنا وأساسيات ديننا.

وأخيرا لا تبخلوا على أهلكم بفلسطين بدعوة صالحة خالصة فيها تضرع واستكانة وخضوع لله عز وجل، ولا يقول قائل هذا أقل ما نقدمه لأخواننا هناك كلا وحاشا، فالدعاء سلاح من لا سلاح له، وتأثيره عظيم والمتتبع لقصص الأنبياء وسير الصالحين يجد ذلك جليا، إذ يقول عليه الصلاة والسلام (هل تنصرون إلا بضعفائكم ؟ بدعوتهم و إخلاصهم ) صحيح الجامع، وعندما قيل للإمام أحمد، كم بيننا وبين عرش الرحمن؟ قال: دعوة صادقة من قلب صادق .

نسأل الله العزيز بأسماءه الحسنى وصفاته العلى أن يحفظ وينصر ويثبت أهلنا وإخواننا في فلسطين، ألهم أيدهم بتأييدك وكن معهم ولا تكن عليهم، وزلزل الأرض من تحت عدوك وعدوهم، اللهم عليك باليهود الملاعين، اللهم دمرهم أي دمار وشتتهم أي شتات واجعلهم عبرة لمن يعتبر، وغنيمة للمسلمين، اللهم نصرك المؤزر الذي وعدت، اللهم حرر المسجد الأقصى من براثن الصهاينة الغاصبين وارزقنا صلاة فيه قبل الممات يا رب العالمين.

اللهم احفظ المسجد الأقصى واجعله شامخا عزيزا عامرا بالطاعة والعبادة، واجعل كيد الأعداء في نحورهم ورد شرورهم واجعل تدبيرهم تدميرا عليهم يا رب العالمين.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

 

20-7-2017م



[1] (الأحزا:70-71).

[2] ( آل عمران:96 ).

[3] من كتاب المفصل في تاريخ القدس، عارف العارف.