ضاقت بهم الأرض بما رحبت ، واحتدام الاضطرابات الأمنية وخطورة الأوضاع في بغداد وخصوصا بعد أحداث سامراء في 22/2/2006 لا سيما الأحداث الخطيرة في استهداف مساجد السنة ومناطقهم لا سيما أن معظم التجمعات الفلسطينية موجودة في أماكن ذات غالبية شيعية مسيطر عليها من قبل ميليشيا المهدي التي كان لها دور أساسي في استهداف المساجد بزيهم الأسود آنذاك .
يقول ( م م ) أحد الفلسطينيين المتواجدين في شبه القارة الهندية : أصبحت الحياة بالعراق مستحيلة وخصوصا بعد أحداث سامراء والتهديد يومي بالقتل والانتقام يلاحقنا ، وعن أسباب وصولهم للهند يذكر بأنه في تلك الفترة هنالك تحديد وتضييق وصعوبة في الوصول لأي دولة وكان الخيار المتوفر حينها الهند لأناس فروا بأنفسهم ودينهم وأعراضهم ، مع ظن الكثير بسهولة ورخص الحياة المعيشية إلا أن العوائل تفاجئت باختلاف الأحوال .وصل الفوج الأول كما عبر عنه ( م م ) من غير أي حسابات الهم الأول والأخير مكان آمن أيا كانت الظروف ، لم تكن هنالك ستراتيجيات مستقبلية أو أي حسابات معينة ، ما أدى لأن تواجه تلك المجاميع الأولى عناء ومشقة كبيرة ، لأن البيئة تختلف والظروف والأجواء والعادات وأمور كثيرة مختلفة .في بداية كل أمر يكون هنالك غموض في كل ما يحيط بالوضع الجديد ، وعليه تكون القرارات بالبقاء من عدمه صعبة ، ما أدى لقدوم أفواج أخرى وتتابع الناس بالوصول .
إن تاريخ وصول أول دفعة وهو بداية القصة الحقيقية للوجود الفلسطيني بهذا الشكل 5/3/2006 ، وبعدها بأسبوعين أي بتاريخ 20/3/2006 وصلت دفعة أخرى عددهم 28 شخص عبارة عن أربعة عوائل وست شباب .
بدأت حقبة جديدة في تاريخ الشتات والهجرات الفلسطينية المتتالية في التاريخ المعاصر لتصل إلى شبه القارة الهندية ، وهذا يطرح سؤال ملح : وهو ما مدى المعاناة والاضطهاد الذي مر به الفلسطينيون في العراق حتى يصل بهم الحال للالتجاء إلى الهند ؟؟؟!!! .المعاناة الجديدة تختلف جذريا عن معاناة الميليشيات والقتل والتهديد والتشريد ، حيث يذكر ( م م ) أن الغربة والاختلاف الجذري في تلك البيئة جعلنا عرضة للاستغلال فأصبح أصحاب وسائقي سيارات الأجرة يستغلوا غربتنا وينتقلوا بنا من فندق إلى آخر حتى تزداد المدة والأجرة .
ويذكر جانب آخر من المعاناة والاستغلال على سبيل المثال لا الحصر بأن شخص أراد حلق رأسه فلما علم الحلاق بأنه عربي أخذ منه أجرة أضعاف كثيرة ما يعادل 35 دولار ، حتى واجهوا أسوأ وأبشع معاملة من قبل الهنود كما يصفها أحد الوافدين إلى هناك ، أضف إلى ذلك عدم معرفتهم ببيئة الهند وطباعهم من حيث المشرب والمأكل والمسكن والمواصلات فضلا عن عدم معرفتهم باللغة الأنكليزية والهندية !!!.
ومن أسباب اختيار الهند كبديل آمن أن معظم الوافدين لها كانوا في سوريا وقد نفد ما لديهم من مبالغ ولا يمكنهم الرجوع للعراق .
في بداية الأمر لجأت العوائل إلى من يظنون بأنهم سيستردون لهم حقوقهم المسلوبة والضائعة بعد ستة عقود في العراق ، وبمجرد معرفة الموظفين بأن تلك العوائل من الفلسطينيين رفضوا استقبالهم مخالفين بذلك القوانين والأعراف الدولية وأخبروهم بأن هذا ليس مكتب للهجرة ، وقالوا لهم مستغربين : هل في العراق فلسطينيون ؟! ومنذ متى أنتم هناك ؟! ثم خاطبوا بعدها مكتب الجامعة العربية فكانت الصاعقة بعدم معرفتهم بوجود فلسطينيين في العراق ؟!!! ما اضطرهم إثبات شخصيتهم وهويتهم الحقيقية وأنهم فلسطينيون فعلا قدموا من العراق .
ثم انتقلوا للتواصل مع السفارة الفلسطينية في دلهي وبدأت بعلاقة طيبة معهم ، حتى أنهم حضروا تجمعا في السفارة بعد دعوى لهم بالحضور الغاية هي التعارف والالتقاء مع الجالية الفلسطينية والعرب المقيمين في الهند ، حيث قاموا بافتتاح مدرسة لتعليم اللغة الأنكليزية للاجئين الفلسطينيين في الهند ويوما بعد يوم بدأت الأمور تتكشف والنوايا تظهر حقيقة تلك الأمور وتبين بأن السفارة أرادت الاستجداء عليهم من قبل السفارات العربية ورجال الأعمال العرب ما أدى لتدهور العلاقة بين معظم تلك العوائل والسفارة هناك ، لتزداد المعاناة وتتعقد الأمور لأنهم خسروا ثقلا رسميا يفترض أن يكون العون القوي لهم .
لكن كثرة المحن تعطي من خاضها عزم وإصرار على استرداد ولو شيئا من حقوقه ، فأصرت تلك العوائل على إيصال صوتها للجميع فأنشأوا صندوق مالي كجهد فردي واجتهاد منهم كي يتمكنوا من رفع صوتهم وإيصال معاناتهم ومن خلاله تتم الفعاليات المتنوعة من اعتصامات وتظاهرات وعمل لافتات وغيرها من الوسائل الممكنة لهم .
وفي تلك الأثناء بدأت الأعداد بالتوافد للهند بحيث أصبحت عملية الوصول بشكل أسبوعي وازداد العدد وأصبحوا جالية ، وكان لذلك الصندوق أثر إيجابي بعد معاناة كبيرة ومضنية .
وفي شهر نيسان من عام 2007 بدأ التحرك على بعض المنظمات الحقوقية والإنسانية كمنظمة هيومان رايتس ووتش وكذلك الاتصال بالصحافة العربية والأجنبية والهندية لإيصال تلك المعاناة ، وتم إبلاغ الجميع بعزمهم على تنظيم اعتصام كبير أمام مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة ، كان ذلك بتاريخ 17/4/2007 حيث تواجد الجميع أما مبنى المفوضية وكان لكل دوره وقاموا بشرح ظروفهم ومعاناتهم وما حصل معهم في العراق من انتهاكات وكيفية وصولهم للهند وسوء المعاملة التي لاقوها حتى أثمرت تلك التظاهرة وأظهرت معاناتهم عبر وسائل الإعلام المختلفة ، واستمر الاعتصام تسعة أيام حتى يوم 26/4/2007 ولحين خرج عليهم مسؤول رفيع المستوى في الأمم المتحدة وقع معهم اتفاق يتم بموجبه ذهاب فريق من مكتبهم إلى جنيف أو الاتصال بهم عبر الوسائل الممكنة وحل مشكلتهم ومنحهم إعادة توطين خلال مدة لا تتجاوز الشهر .
ويعتبر الاعتصام الذي أقيم من قبل العوائل الفلسطينية له أثر كبير في استحصال موافقة من الأمم المتحدة بأنهم لاجئون !!!.
وبعد أقل من شهر تم الاتصال بهم ومنح إعادة توطين للوجبات الأولى وعددهم 45 شخص مقسمة إلى تسعة ملفات ، وهكذا استمرت الأمور لحين استحصال تسعة ملفات أخرى على إعادة توطين وهي الوجبة الثانية .بعد ذلك بدأت مرحلة جديدة لتلك العوائل محاولين استحصال بعض الحقوق التي قد تعينهم في حياتهم المعاشية والقانونية أسوة ببقية اللاجئين الفلسطينيين أو كحد أدنى باللاجئين في العالم .
ثم غادرت تلك اللجان لأنها لا تأتي إلا بداية أول خمس شهور من العام لتبقى معاناة الكثير منهم مضاعفة مقارنة مع غيرهم .
وقد حصلت موافقة 10 أشخاص للسفر إلى النروج 7 منهم لم شمل وكفالة أمنية ، وعائلة لم شمل إلى نيوزلندا ، وهنالك احتمال قدوم لجان نرويجية وسويدية وأمريكية ونيوزلندية في شهر آذار من عام 2008 .ينقسم أماكن سكنهم إلى ثلاثة أقسام في ثلاث مناطق ضمن العاصمة دلهي ، حيث يقطن قرابة 30 عائلة في قرية تسمى فزنت كونج .
المنطقة الثانية تسمى ماليفيانكر وتقع جنوب غرب دلهي وفيها 13 عائلة .
والمنطقة الثالثة أرجون نكر وفيها قرابة 5 عوائل ، وهنالك 4 عوائل يسكنون في مناطق متفرقة ، ويبلغ العدد الإجمالي لهم الآن 237 شخص .
وتقع قرية فزنت كونج وسط غابة كبيرة يسكنها الفقراء وتعدادها قرابة 35000 نسمة ، وفيها من الحيوانات المتنوعة والسائبة أكثر من البشر بحسب وصف أحد اللاجئين هناك .
ويوجد في تلك القرية معبد للبوذيين ويكثر فيها الكلاب والخنزير والأبقار والطاؤوس والصقور وقليل من الغزلان والفيلة ، أما القوارض فحدث ولا حرج كما يصف أحدهم ، لأن كثير من سكان تلك الأماكن يعبدون القوارض ويحرمون قتلها ، إذا أن نسبة المسلمين قليلة في تلك المناطق ، ويكثر فيها الهندوس واالسيخ والبوذيون ومنهم من يعبد نفسه ومن يعبد الحجر والشجر والفأر وسائر الحيوانات ، وتوجد نسبة من المجوس الذين يعبدون النار .
تلك التغيرات البيئية والثقافية والاجتماعية والجغرافية بحق تعمل اضطراب وصعوبة في التعايش لكن المضطر والمكره لا يأبه في تلك الصعوبات ويحاول التأقلم ، وتتوارد الأنباء من صعوبة عامة في الحياة المعيشية وما يتم إعطاءه لهم من المفوضية أو اللجان والمنظمات الحقوقية لا يسد جزء صغير من احتياجاتهم ، وعندما نتحدث عن فرص للعمل تكون الصدمة كبيرة لأن الأجور والعمالة لديهم ضعيفة جدا وفرص العمل غير مواتية ، حتى أن أجرة العامل في اليوم مع الحوافز والمكافئات تصل إلى 1.2 دولار .
بذلك الجزء من العالم تسطر قصة معاناة وشتات ويضع الفلسطينيون بصمات ومأساة حقبة لم تنتهي لحد الآن أدت لتشتيت نصف الفلسطينيين من العراق أبان الاحتلال عام 2003 ، حيث لم يتبقى الآن وبحسب التقارير الواردة من بغداد إلا ( 10000 فلسطيني ) أي قرابة النصف هجروا ورحلوا وانتقلوا إلى أكثر من ثلاثين دولة موزعة على جميع القارات والبيئات .