من المؤكد ان الحقيقة المطلقة الوحيدة في هذا الكون الشاسع هو الذات الإلهية , الله تعالى ووحدانيته ووجوب عبادته لأنه الخالق ولأنه الأول والآخر وما عداه فكل شيء نسبي والحقائق التي تعيش فينا ونعيش فيها هي حقائق ووقائع نسبية غير باتة ولا قاطعة ، فمثلا الذبابة التي نراها تافهة ستكون عملاقا ضخما إذا ما قارناها بفيروس لا يمكن أن تراه سوى بمجهر يكبر الأشياء مئات آلاف المرات ، والجبل العظيم ليس سوى نقطة صغيرة بالنسبة لحجم الأرض ، والكرة الأرضية بكل ما فيها وما عليها نقطة في محيط لا تستطيع أن تتصور مداه بالنسبة للكون السحيق ، هذه النسبية تنعكس على كل متعلقات حياتنا في الماضي والحاضر وفي المستقبل ، وهذه النسبية في الحياة إنما تبدأ من الصفات الحسية والإدراك العقلي وصولا إلى خطوات التصرف والسلوك .
أسوق هذه المقدمة بعد ما لاحظت كثرة المقالات والتعليقات عن المواضيع التي تتحدث عن حياة لنا كانت في العراق ، طبعا لكل رأيه الخاص استنادا إلى رؤيته ووجهة نظره للتفاصيل التي عشنها وعاشت معنا هناك ، لكني وجدت ان كثيرا من هذه الآراء والأفكار ووجهات النظر في المقالات والتعليقات بعيدة عن الإنصاف وتضع الأمور كلها في زاوية واحدة , لأنها ترى هذه الأمور من نافذة واحدة ، فكثرت الانتقادات والمغالطات والسلبيات في هذه الكتابات ووضعت كل العراق والعراقيين في سلة صفة أو صفات باتة وقطعية وألفاظ الطاقية تشمل الكل مثل : الحاقدون ، القتلة ، البرابرة ، وغيرها من الصفات السلبية ، بل ان فيهم من لم يجد حالة ايجابية أو نقطة ايجابية واحدة أو حسنة واحدة تذكره بالعراق وما كانت عليه أوضاع آلاف الفلسطينيين هناك لأكثر من نصف قرن قبل أن تبدأ عمليات القتل والتهجير فيهم من قبل جماعات طائفية حاقدة عنصرية لا تفرق في القتل بين فلسطيني وعراقي .
من الكتاب من رأى ان عذابات الفلسطيني في العراق ومعاناته ابتدأت من لحظة وصوله وحتى مماته أو خروجه هاربا من جحيم العراق بعد الاحتلال ولتشمل كل أبواب الحياة ونوافذها من الإقامة إلى السكن والحالة المعيشية والدراسية والصحية والى كل مناحي الحياة الأخرى ، وهنا أنا لست ممن يقحمون أنفسهم في أمور لا تعنيهم أو أحاول فرض وجهة نظر على الآخرين أو أدافع عن سواد باطل أو اظهر شيئا من التملق أو النفاق من بعيد لصديق قريب أو بعيد ، إنما في ذهني وقائع وحقائق ليست مطلقة لكنها معروفة وعاشها جميع فلسطينيي العراق بصورة أو بأخرى ، وقائع يعرفها الكل وخاض فيها معظمنا لكنها الآن أصبحت خلف ضباب الغربة وعتمة اللجوء .
من هذه الوقائع والتي هي في مجملها كانت من أساسيات معترك حياة الفلسطينيين في العراق وما ترتب عليها :
. منذ أن وطئت ارض العراق وتحديدا في شعيبة البصرة قدم أول لاجئ فلسطيني عام 1948 وحتى آخر طابوقة صفت في آخر بناية سكنية لفلسطينيي العراق بالبلديات , من كان يجاورهم في السكن ؟؟ من كان يسكن إلى جانبنا في ( درابين ) أبو سيفين ؟؟ من كان يجاورك وأنت في الفضل أو قمبر علي ..؟؟ جيرانك في التوراة أو تحت التكية أو أبو دودو هل كانوا غير عراقيين ؟؟ وهل كانوا يسكنون القصور ؟؟ الم يكن من يشاطرك ( الدربونة) بنفس المستوى من السكن هو ابن البلد ؟؟ اعتقد ان المعاناة هي ذاتها التي كنا نعيش في الحالتين ، لأن مقومات الحياة هي ذاتها في الحالتين ، حتى ان قسما من هذه الحارات والدرابين ما زالت شاخصة بسكانها من البغداديين حتى اليوم ، مثل قمبر علي والفضل وغيرها ، وهي حتى اليوم تحمل نفس مقومات الحياة البائسة التي عشناها منذ أكثر من نصف قرن .
. بعد ولادتك في إحدى هذه الدرابين البغدادية القديمة التي يملأها الضجيج مع العفن ورائحة الرطوبة مع العلاقات الحميمة وبعد ان شربت من ماء دجلة وتغذيت من خبزها أو صمونها وكبرت طفولتك سريعا وذهبت إلى المدرسة ، من كان يقرأ معك (دار دور ... نار نور) ؟؟ من كان ينشد في ساحة المدرسة كل خميس (موطني .. موطني) ؟؟ من كان يردد نشيد (لاحت رؤوس الحراب) والى جانبه سارية العلم العراقي ؟؟ من كان يصفق بعد أداءه (وطن مد على الأفق جناحه) ؟؟ ومن كان يجلس إلى جانبك يجاريك أو ينافسك في التفوق والنجاح ..؟؟ الم يكن عراقيا بغداديا يلبس ما تلبس ويأكل ما تأكل ويشرب ما يشرب وتدرس ما يدرس ؟ .
هل كان المعلم العراقي يميزك في التعامل سلبيا كونك من فلسطين ؟ .
. الكثير منا بعد ان درس المتوسطة والإعدادية تم قبوله في الجامعات العراقية على أساس المعدلات وفي السبعينات حيث كان النشاط الثوري الفلسطيني ضد العدو الصهيوني في أوجه وذروته كانت المنح للطلبة الفلسطينيين في أوجها أيضا من فلسطينيي العراق ومن خارج العراق حتى ان كثيرا من فلسطينيي العراق من الطلبة الجامعيين كان يحصل على منحة مالية شهرية حتى تخرجه , خاصة من الذي قبلوا في جامعات المحافظات حيث اعتبروا وافدين ، بينما لم يكن العراقي الذي يدرس خارج محافظته يحصل على منحة كهذه .
. بعد التخرج من الجامعة وفي السبعينات والثمانينات خاصة ستجد اسمك في قوائم التعيين المركزي ان رغبت ، وإلا فالتحق بالوظيفة التي ترغب حسب تخصصك وتوافق عليك الدائرة أو المؤسسة التي تعينك ، باستثناء دوائر الأمن والمخابرات والشرطة لأسباب وقوانين وضعية معروفة وتطبق في كل دول العالم .
. حتى في الستينات وبعد انقلاب تشرين 1963 تحديدا ، تم إلقاء القبض على جميع البعثيين ، الحرس القومي آنذاك ومن ضمنهم كان عدد من الفلسطينيين وبعد فترة توقيف قصيرة طرح على المعتقلين الفلسطينيين التسفير إلى دولة عربية واختار الجميع سوريا حيث كان حزب البعث يحكم هناك وبالفعل تم سفر المعتقلين الفلسطينيين ثم من كان متزوجا منهم لحقت به زوجته واستقروا هناك ، ماذا كان مصير المعتقلين العراقيين حينها ؟؟ .
. جميعنا عايش وتعايش وعاشر ابن البلد العراقي كجار سكن أو زميل دراسة أو زميل وظيفة سنين طويلة بل ان عدد منا صاهرهم وتصاهر معهم فهل كانت للجملة السخيفة (هَم نِزِل ... وهَم يدبِّج على السطح) أي مكان في مسمعه ؟؟؟ وان كان كذلك فهذا المثل لم يخترعوه من اجل الفلسطيني ، وإنما كان يقال لكل غريب في بغداد من المحافظات يشكل إزعاجا على الساكنين ، وان قيل هذا المثل للفلسطيني على لسان احدهم فهو حتما جاهل متخلف حسود حقود وهذه الفئة من الناس تجدها في كل مجتمعات الدنيا .
وبعد , من الأمثلة والشواهد الكثير الكثير ولكن .. في واحدة من أعمق معاني الجحود (إثبات ما في القلب نفيه... ونفي ما في القلب إثباته) وجميعا في قلوبنا تاريخ حياة بحلوها ومرها ، فهي يمكن إنكار حلوها لكن في القلب يبقى الطعم الذي لا يمكن إخفاؤه ؟؟ ، وهل يمكن إثبات مرها بالقطع والإطلاق بينما في القلب جزئيات ومفاصل فيها من الحلاة من طعم لا تستطيع كل المرارات أن تلغيه أو تنفيه ؟؟ نعم في العراق من شهر السلاح وقتل أبناءنا وفيها من هدد ومن عربد وفيها من اجبر الكثير منا على الهجرة وفيها ... وفيها ... لكن فيها أيضا من يدافع عنا ويقف معنا وفيها من قتل أبنائهم لنفس السبب : لأننا وهم من السنة ، فالقتل حينها كان على الاسم والهوية ، فهل تزر وازرة وزر أخرى ؟؟؟؟ .
مأساتنا الكبرى ان أهلنا عاشوا النكبة في فلسطين وعاصروها فلم يحتملوها واجبروا على الهجرة واللجوء ، ومأساتنا الكبرى اننا جيل ولد وتربى وعاش خارج أرضه ومازال ولن يهدأ لنا أو لأولادنا أو لأحفادنا بال ، ولن تكون لنا ولهم حياة كريمة بكل معانيها إلا على تراب فلسطين بإذن الله .
أحمد أبو الهيجاء
9/10/2011
المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"