تطورات الوضع المأساوي في العراق ألحقت بالحالة الفلسطينية أضرارا بليغة، بحيث نزف الوجود البشري الفلسطيني في العاصمة العراقية، بفعل الهجرة، وتناقص عدد اللاجئين الفلسطينيين فيها من حوالي 35 ألفا إلى حوالي 13 ألفا، في رحلة حافلة باللوحات السوداء.
الآخرون إما غادروا العراق نهائيا إلى بلدان الضباب والثلج والصقيع. وإما لجأوا إلى مخيم الهول أو التنف، أو الوليد. أو احتضنتهم المقابر، بعد أن وجدوا جثثا مشوهة في المشرحة العامة في وزارة الصحة، أو على قارعة الطريق.
ومع ذلك فإن مأساة اللاجئين الفلسطينيين في العراق تستمر يوميا، وفي كل يوم تحمل في طياتها حدثا جديدا.
من أهم هذه الأحداث :
* إن وزارة الداخلية العراقية قررت اعتبار اللاجئين الفلسطينيين لاجئين سياسيين، ينطبق عليهم ما ينطبق على باقي اللاجئين السياسيين، من شروط الإقامة والعمل والتنقل والانتماء السياسي. وهذا ما يلغي خصوصيتهم كجزء من شعب لاجئ، غادر أرضه تحت ضغط الإرهاب، يتوق للعودة ويناضل لأجلها. يصون حقه في العودة المجتمع الدولي بقراراته ذات الصلة ومنها القرار 194.
وزارة الداخلية العراقية باشرت في تنفيذ قرارها، وبدأت توزع على اللاجئين الفلسطينيين في بغداد بطاقات هوية جديدة تختلف عن سابقتها. وهكذا لم يعد يحكم الوجود الفلسطيني اللاجئ في العراق بروتوكول الدار البيضاء لجامعة الدول العربية، بل «خصوصية» عراقية تتعامل مع اللاجئين الفلسطينيين بمعايير لا تستقر عند حدود.
* الخطوة الثانية، في تداعيات الخطوة السابقة، أن على اللاجئ الفلسطيني المقيم في بغداد (وفي العراق عموما) أن يثبت وجوده شهريا في قسم الشرطة التابع له، عبر حضوره، وإثبات شخصيته أمام ضابط القسم، بما يشبه الإقامة الجبرية، وبأسلوب تتبعه عادة، وزارة الداخلية في الدول الأخرى، مع المجرمين الذين أنهوا محكومياتهم، وأطلق سراحهم من السجن، لكنهم مازالوا تحت رقابة الشرطة حتى لا ينزلقوا مرة أخرى نحو عالم الجريمة. إن مثل هذا الإجراء، كما وصفه بعض الفلسطينيين في العراق، يحول كل فلسطيني إلى متهم، بحاجة لإثبات براءته، والتهمة هي أنه فلسطيني. وهو ما يشبه سياسة التمييز العنصري ضد اللاجئين، يخفي حقدا دفينا إزاءهم.
* الخطوة الثالثة أن على اللاجئ الفلسطيني، منذ الآن فصاعدا، أن يبحث له عن كفيل أمني من أبناء العراق، يتقدم إلى قسم الشرطة بأوراقه الثبوتية، مؤكدا معرفته بشخص اللاجئ الفلسطيني وأفراد عائلته، مبديا استعداده لكفالته أمنيا باعتباره لا يشكل خطرا على أمن البلاد واستقرارها (!). أي بما معناه أن كل لاجئ متهم أنه خطر على الأمن، وأن عليه إثبات براءته من هذه التهمة من خلال شهادة مواطن عراقي وكفالته. وفي حال عدم توفر هذا الكفيل، قد يكون اللاجئ معرضا للإبعاد.
* من الجديد في أوضاع اللاجئين في العراق، خاصة النازحين منهم إلى مخيمي الوليد والتنف، أن دول اللجوء (الدول الاسكندنافية ـ كندا ـ أميركا اللاتينية ـ بريطانيا ـ الولايات المتحدة..) تضع شروطها لاستقبال اللاجئين النازحين إلى هذه المخيمات. من بين هذه الشروط أن يوقع، ويضع بصمات أصابعه العشر، وكذلك بصمة العين، على وثيقة يقر فيها بالتخلي عن حقوقه الشخصية كما وردت في القرار 194. علما أن حقوق اللاجئ، كما كفلها هذا القرار هي العودة إلى الديار والممتلكات، والتعويض عما لحق به من أضرار مادية ومعنوية. وبتوقيعه هذا، يكون قد تخلى ليس فقط عن حق العودة بل وعن حقه في التعويض. وهناك من أكد لنا أن صعوبة العيش في التنف والوليد، وأن الإذلال الذي يتعرض له اللاجئون الفلسطينيون قد دفعا الكثير منهم للتوقيع على هذه الوثيقة ـ الإقرار بحثا عن مخرج من الجحيم اليومي الذي يعيشون فيه، وأملا في توفير مكان بديل يضمن لهم الحد الأدنى من إنسانيتهم.
* في السياق نفسه، كما بات معروفا، فإن من شروط قبول السودان لحوالي ألفي لاجئ فلسطيني، أن يسمح لوفود دول المهجر واللجوء، أن تلتقي اللاجئين الفلسطينيين فيه، لتشجيعهم على الهجرة إلى الغرب، والإقامة فيه بديلا لحق العودة.
خلاصة الكلام أن مأساة اللاجئين في العراق تشكل نموذجا للقضية التي تتناتشها الأيدي، وتمعن فيها تمزيقا، تحت سمع وبصر الهيئات الفلسطينية، الرسمية منها والشعبية.
ففي رام الله لجنة معنية بالإشراف على أوضاع اللاجئين في العراق يدير شؤونها عزام الأحمد، رئيس كتلة فتح البرلمانية، وسفير فلسطين السابق في بغداد. لكن، وكما هو معروف، فإن الأحمد منشغل بالعديد من القضايا منها قضية الحوار، ومؤتمر فتح، والتعديل الحكومي. الأمر الذي يدعونا للسؤال عما إذا كانت الحالة الفلسطينية قد افتقدت القدرة على تعيين بديل لعزام الأحمد يتفرغ لشؤون اللاجئين في العراق بشكل عملي، ويعطي لهذه القضية ما تستحق من اهتمام، خاصة وأنها تشكل بروفة سياسية لمجمل قضية اللاجئين الفلسطينيين.
بدورها تعيش دائرة شؤون اللاجئين في م.ت.ف. على هامش الحدث، ولا تبدو أنها على صلة بما يدور في بغداد، وفي غيرها من دول اللجوء الفلسطيني، خاصة وأن رئيس هذه الدائرة مقيم في غزة خلف الحصار، وفي ظروف معقدة، بحيث تصبح قضية اللاجئين في الخارج واحدة من القضايا الهامشية في حسابه، مقارنة مع ضغوط الوضع اليومي في القطاع في ظل الانقسام المعروف.
أما اللجنة التنفيذية في م.ت.ف. فإن من يطالع نتائج أعمالها يلاحظ أنها منشغلة بالعديد من القضايا المهمة، لكن ليس من بينها قضية اللاجئين في العراق. خاصة وأن رئيس دائرة اللاجئين، المفترض به أن يضمن حضور ملف اللاجئين على جدول أعمال اللجنة التنفيذية، هو نفسه لا يحضر شخصيا اجتماعات قيادة المنظمة.
كذلك يسجل على لجنة اللاجئين في المجلس الوطني، كما في المجلس التشريعي (الغائبين هما أيضا) أنهما مغيبتان ويمكن التعليق على هذا بالقول: كثرت اللجان، لكن نتاجها لا يذكر.
ويبدو أن اللاجئين في العراق فقدوا الأمل في أن تمتد لهم يد العون، فلسطينيا، أو عربيا، فآثروا أن يستسلموا للحلول التي تأتيهم من هنا وهناك، في إطار مشاريع باتت معروفة تستغل الأوضاع المأساوية، لتضع مشروع التوطين موضع التطبيق الفعلي، بهدوء وصمت، متخذة لنفسها الطابع الإنساني البحت، علما أنها مشاريع سياسية من الطراز الأول، تسير مع خطط الاستيطان، ومصادرة الأرض، خطوة خطوة، في رؤية متكاملة لكيفية إجهاض القضية الوطنية الفلسطينية، وحقوق شعبها، مستغلة كذلك حالة الانقسام المهيمن على الوضع الفلسطيني، وهو انقسام بات يشغل الحيز الأكبر من الاهتمام الوطني..
فإلى متى؟!
19/4/2009
معتصم حمادة