17-6-2009:
لم تستطع الزيارة الأخيرة للرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى بغداد، ولا زيارته لكردستان العراق ولقاؤه مع الرئيس جلال الطالباني أن تجد الحلول الكاملة والتامة لمأساة اللاجئين الفلسطينيين في العراق، الذين ذهبوا ضحية من ضحايا مابعد الاحتلال الأميركي للعراق. كما لم تستطع الزيارات المتتالية التي تمت خلال العامين الماضيين لعزام الأحمد وجبريل الرجوب من وضع حد لحالة المعاناة الكبيرة التي مازالوا يتعرضون لها الآن (ولو بشكل مختلف وأخف نسبياً) عن السنوات الأولى التي أعقبت الاحتلال الأميركي.
ومصدر المعاناة يتم الآن مع استمرار إقامة عدة آلاف منهم في مخيمات ثلاثة باتت منتشرة على حدود العراق مع سوريا، إضافة لحالة القلق التي تنتاب ما تبقى منهم داخل العراق وفي بغداد على وجه التحديد بالرغم من تراجع حجم المخاطر التي كانت قد أحاطت بهم في السنوات الماضية.
وقبيل عام مضى، تم إغلاق مخيم الرويشد على الحدود الأردنية ــ العراقية بتهجير غالبية من كان قد أقام فيه إلى دياسبورا العالم البعيد، بينما سمح لأعداد منهم بالدخول إلى الأردن، حيث كانت اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي قد أصدرت (220) وثيقة سفر للحركة لمرة واحدة ، وباتجاه محدد، للدفعة الأخيرة من اللاجئين الفلسطينيين المتواجدين في مخيم الرويشد على الحدود الأردنية ــ العراقية في المنطقة العازلة الصحراوية بعد سنوات من إقامتهم.
ولم تكن منحة وثائق السفر لمرة واحدة التي أصدرتها لهم اللجنة الدولية للصليب الأحمر للاجئين الفلسطينيين في مخيم الرويشد على الحدود الأردنية ــ العراقية بهدف نقلهم إلى وطنهم فلسطين، بل لإغلاق المخيم ونقلهم إلى دياسبورا ثانية بعيدة عن ارض فلسطين بعد أن ضاقت أرض العرب بهم، ولم تتسع لهم على مساحتها البالغة أربعة عشر مليون كيلومتر مربع من المحيط إلى الخليج. فيما يطلق بعض النظام العربي شعاراته ليلاً نهاراً برفض «التوطين» للاجئين الفلسطينيين، بينما هذا العرب الرسمي يعمل على تجاهل قضيتهم أولاً، ولم يقرن شعاره برفض التوطين بالعمل على إقرار «حق العودة» ثانياً.
ومع هذا فان مخيم رويشد لم يتسع لهم أيضاً بالرغم من صعوبة الحياة فيه، وهو المقام وسط صخور البازلت السوداء التي تشكل المنطقة الحـــدودية بين الأردن والعراق، حيث استقبلت خرائب هذا المخيم المنعزل مئات الفلسطينيين ممن فروا من نيران الحرب على العراق والعنف المستمر فأقام فيه قرابة (1000) مواطن فلسطيني، دخل منهم إلى الأردن (400) نفر فقط، وتوجه بضع مئات إلى كندا ونيوزيلندا بمساعدة الصليب الأحمر إلى أن تم إغلاق المخيم وتهجير كل من لجأ إليه إلى أصقاع الكون المختلفة.
فبعد الحالة الصعبة التي تعرض لها اللاجئون الفلسطينيون المقيمون فوق أرض العراق منذ العام 1948، والذين لم تكن أعدادهم لتتجاوز الـ (35) ألفاً أبان العدوان الأميركي على العراق في مارس 2003 بدأت مرحلة جديدة من التغريبة الفلسطينية بهجرة قسرية ثانية للاجئين الفلسطينيين لتمتد من العراق العربي إلى أصقاع الأرض الأربعة، إلى البرازيل وتشيلي والهند وقبرص والسويد وماليزيا وأستراليا إلى أطراف القطب الجنوبي في نيوزيلندا وايسلندا، حيث لم يغادر هؤلاء الفلسطينيون العراق بحثاً عن عمل، أو سعياً وراء عيش رغيد، أو لتحسين ظروفهم المعيشية، وإنما للنجاة بأرواحهم وأطفالهم من عمليات القتل على الهوية، التي مارستها ضدهم بعض الميليشيات الحاقدة، التي مزقت هوية العراق العربية والوطنية وتحالفت مع المحتل ومشروعه الاستعماري الإذلالي، ورسخت ارثاً غريباً على العراق يقوم على الأحقاد الكراهية للعرب والعروبة. فغادر غالبية اللاجئين الفلسطينيين أرض العراق العربي والمناطق الحدودية مرددين رغم كل شيء «بلاد العرب أوطاني»، فيما بقيت فلسطين في وجدان الجميع يواصلون الإنشاد أينما حلوا «موطني ..
موطني» لكن الهم الشخصي يطغى.
وعليه، لم يبق أمام غالبية اللاجئين الفلسطينيين في العراق سوى الهجرة القسرية من جديد خارج حدود العراق بعد عقود من النكبة، ومن الإقامة التي طالت في بلاد الرافدين، فقد بتنا الآن وبعد كارثة العراق، نسمع أسماء تجمعات فلسطينية جديدة تضاف إلى قائمة مخيمات وتجمعات الشتات الفلسطيني الممتدة في بلدان الطوق المحيط بفلسطين، بل وفي بعض البلدان غير العربية، حتى بتنا نسمع عن تجمع فلسطيني جديد شبيه بالمخيم اسمه «مخيم أو تجمع نيقوسيا» على مقربة من العاصمة القبرصية تقيم فيه بضع عشرات من العائلات الفلسطينية التي هربت من جحيم القتل في العراق، وبتنا نسمع أيضاً عن مخيم أو تجمع اسمه «تجمع نيودلهي» على مقربة من العاصمة الهندية تقيم فيه بحدود (300) عائلة فلسطينية من العائلات الميسورة التي أسعفها حظها في القدوم هناك هرباً من عمليات القتل والتنكيل التي مازالت تمارس ولو بشكل أضيق الآن على أرض العرق ضد اللاجئين الفلسطينيين المقيمين.
وبالقرب من مخيم التنف في موقع نقطة الحدود السورية مع العراق والى جانبه وعلى بعد كيلومتر واحد منه فقط يقع مخيم الوليد في نقطة الحدود العراقية مع سوريا، ومخيم «الهول» في الأراضي السورية وبالقرب من معبر اليعربية السوري العراقي الواقع أقصى شمال شرقي سوريا في محافظة الحسكة.
ففي مخيمات التنف، والوليد، والهول، على الحدود العراقية والسورية باتت أعداد اللاجئين الفلسطينيين تتجاوز (2700) نفر، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، فالخيام عادت أمام الفلسطينيين في العراق بعد عقود من النكبة الأولى، عادت من حينها لتفترش قطعة من الصحراء على الحدود العراقية والسورية، في منطقة صحراوية قفراء، بعد أن أقفل العرب أبوابهم في وجه هؤلاء، ليبقوا في العراء، وسط العقارب والثعابين وعواصف الغبار من ثلاثة أعوام ونيف، يفترشون الأرض ويتلحفون السماء، داخل خيم كأنها حمام ساخن، لا تقيهم لهيب الشمس في النهار، ولا برودة الليل في المناخ القاري ليلاً ليصبح الوضع داخل الخيمة ليس أفضل حالاً. وكل ذلك دون أن يجدوا المساعدة المطلوبة بالحجم الممكن جراء هذه الإقامة القسرية، ودون أن يجدوا حلاً ناجعاً لهذه الإقامة المؤقتة المرشحة للاستمراء على ضوء انعدام التحرك الرسمي الفلسطيني والعربي لإنقاذهم، ومد اليد لمساعدتهم.
وفي هذا السياق، يمكن القول وفق المعلومات المؤكدة والمستقاة من مصادر فلسطينية رسمية أصدرتها هيئة الإغاثة الفلسطينية في مخيم اليرموك (إيثار) والتي تعمل بدأب ونشاط في مساعدة الفلسطينيين في مخيم التنف، أن أعداد اللاجئين الفلسطينيين في مخيم التنف تبلغ الآن بحدود ألف نفر( 113 طفل + 96 امرأة + 22 فتاة، والباقي من الرجال وكبار السن)، فيما بات على أرض مخيم الهول قرابة (700) نفر، وفي مخيم الوليد قرابة (1000) نفر. حيث تشرف على مخيم الوليد السلطات العراقية باعتباره واقعاً داخل الحدود العراقية وعلى بعد ثلاثة كيلومترات من الحدود السورية من موقع التنف، بينما تشرف على مخيم التنف الواقع في المنطقة العازلة إلى غرب مخيم الوليد المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إضافة لوكالة الأونروا في سوريا، ومجموعة من الهيئات والمؤسسات الفلسطينية العاملة في سوريا ومنها هيئة (إيثار). أما مخيم الهول الواقع شمال شرقي سوريا بالقرب من معبر اليعربية فتشرف عليه إضافة للمفوضية السامية للاجئين الحكومة السورية.
وما زاد من صعوبة الأمور، التدهور اليومي في أوضاعهم المعيشية، مع تنامي بوادر ظهور مجاعة حقيقية وتناقص في كميات المياه التي تصلهم بطرق مختلفة، وهو ما أقرته المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، حين تحدث تقريرها الأخير واعترف بصعوبة الأوضاع المعيشية بمخيم التنف الذي تشرف عليه باعتباره واقعاً في المنطقة العازلة من الحدود السورية العراقية. فالمواد الغذائية المقدمة من قبل المفوضية السامية لا تسد حاجة اللاجئين، والكميات المخصصة لكل فرد أسبوعياً بدأت تنخفض وفي أحيان كثيرة لا تسلم في أوقاتها، كما أنها مجموع كمياتها المقدمة شهريا لا تكفي لأكثر من (15) يوماً. فضلاً عن أن حصة العائلة المؤلفة من أربعة أفراد وستة أفراد من المياه لا تتجاوز (25) ليتراً يومياً، وهي كمية لا تكفي إطلاقاً في ظل درجة حرارة تتجاوز الأربعين درجة مئوية وفق سلم سلزيوس للقياس الحراري، وعليه فإن نساء المخيم يقمن باستجداء المياه من السيارات العابرة على طريق دمشق بغداد الدولي. فضلاً عن تواضع الخدمات الصحيّة المتاحة، ومروراً بكل التفاصيل الحياتيّة اليوميّة من سوء الطقس وهبوب العواصف الرملية التي لا تبقي ولا تذر شيئاً على حاله.
كما أن اللاجئين الفلسطينيين في مخيم التنف الصحراوي، يعانون من نقص الكهرباء حيث يوجد في المخيم عدد من مولدات الطاقة الكهربائية بطاقات منخفضة، عدا أن معظمها عاطل عن العمل، فضلاً عن تقطع توفر مادة (السولار/المازوت) اللازم لتوليد الطاقة الكهربائية، مما يجبر اللاجئين الفلسطينيين على طلب المازوت من السيارات والعربات المسافرة على الطريق الدولية بين بغداد ودمشق.
وكانت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة قد أشارت أكثر من مرة للظروف الصعبة التي يواجهها نحو ألفي وخمسمائة فلسطيني يقيمون عند الحدود العراقية السورية والعراقية بعد فرارهم من العنف في بغداد. حيث أكدت مصادر المفوضية على لسان الناطقة باسمها جنيفر باغونيس للصحفيين أن « الكثير من المقيمين في المخيم أمسوا بحاجة إلى عناية طبية عاجلة بما في ذلك أم لسبعة أطفال تعاني من سرطان الدم وفتى يعاني من مرض السكري».
وفي الوجه الآخر من مأساة مخيم التنف وأشقائه من مخيمات الوليد والهول، تبرز إرادة الحياة القوية لدى اللاجئين الفلسطينيين الذين افتتحوا مدرسة للتعليم أسستها وكالة الأونروا في سوريا، تحت ظلال خيمة كبيرة، وتعمل بدوام كامل، وبكادر داخلي من أبناء المخيم، حيث يصرّ أبناء المخيم على تعليم الأطفال بمختلف شرائحهم العمرية، انطلاقاً من إرادتهم المجبولة بالمعاناة المتواصلة منذ خروجهم من أرض الوطن الفلسطيني وتحديداً من قرى جنوب شرق مدينة حيفا عام النكبة، حيث تدير المدرسة وكالة الأونروا في سوريا، وتدرس المناهج التعليمية السورية وذلك بعد تدخل متواصل من قبل العديد من الشخصيات الوطنية الفلسطينية المستقلة التي فرضت على المركز الإقليمي لوكالة الأونروا في سوريا تبني الجانب التعليمي لأبناء المخيم. كما أن حدود المكان وصلافة العيش، لم تمنعهم أيضاً من زراعة الخضار كالبندورة والكوسا وبعض الحبوب وريها بالمياه المستخدمة في الغسيل بعد تمريرها عبر قطع من القماش.
في هذا السياق، إن مأساة اللاجئين الفلسطينيين في العراق، تثير الاستغراب من موقف بعض القوى العراقية التي كانت تقدم نفسها باعتبارها قوى « تقدمية وديمقراطية « كالحزب الشيوعي العراقي وأحزاب اليسار ويسار الوسط الكردية والأحزاب القومية، التي لم تحظ بموئل أمان سوى الموئل المادي والمعنوي الفلسطيني إبان عملها خارج العراق قبل سقوط نظام صدام حسين، خصوصاً في الفترة اللبنانية من العمل الفلسطيني في الثمانينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حين كانت القوى الفلسطينية تسبح في (نعمة المال). (فالرفيق) عزيز محمد زعيم الشيوعيين العراقيين، وحميد مجيد موسى الزعيم الحالي، ومعهم كريم أحمد زعيم الحزب الشيوعي الكردستاني وآلاف من كوادر الشيوعيين العراقيين ومن بينهم أعضاء الأحزاب القومية العربية والكردستانية على حد سواء، كانوا ضيوفاً دائمين لدى الحاضنة الفلسطينية عملاً وامداداً.
أخيراً، في مشهد مأساة اللاجئين الفلسطينيين على أرض العراق، تتلخص مأساة العراق، وينفتح جرح الظلم في عالم بات محكوماً بلغة بعيدة عن الإنسانية، عالم ينضح بالبشاعة، وهو يشجع أو يتغاضى عن عمليات القتل والتهجير التي تتم في العراق من قبل عصابات حاقدة متوالد بإرادة الاحتلال.وفي الوقت الراهن، لم يتبق على أرض العراق سوى أعداداً محدودة من اللاجئين الفلسطينيين، باتوا على موعد دائم مع القلق المتزايد، والخوف من المجهول في ظل تناسي قضيتهم، وعجز السلطة الوطنية الفلسطينية وقيادة منظمة التحرير والجامعة العربية من الحصول على ضمانات حقيقية بحمايتهم، وتأمين سلامتهم من المجهول الآتي.