الحمد لله رب العالمين ، الحق المبين قاهر الطغاة والمجرمين ، ولي المؤمنين وناصر عباده الصالحين ، رفعنا بالقرآن وأعزنا بالإسلام ، والصلاة والسلام على النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
هذه الأيام من الأيام العظيمة المباركة التي فيها من المعاني الجليلة والمواقف الكبيرة ما يجعل كل مسلم بل كل إنسان التأمل فيها ، فيوم عرفة حيث أكبر تجمع عالمي إسلامي مشهود في صعيد واحد ووقت واحد حيث تخضع القلوب لخالقها والرقاب لجبار السموات والأرض ، والأجواء الإيمانية والألسنة الذاكرة الشاكرة المخبتة إلى ربها والشعور بالقوة والوحدة بين شتى الأجناس ودينهم واحد وقبلتهم واحدة ومعبودهم واحد .
ثم يوم النحر وهو أول أيام عيد الأضحى الذي فيه من المعاني العظيمة الجليلة ما الله به عليم وأفضلها العج والثج أي كثرة ذكر الله تعالى وكثرة إراقة الدماء شكرا له على نعمه وأداء طاعته وأن يسر لهم هذه القربات ، بعدها أيام التشريق التي فيها استجابة لأمر الله عز وجل .
ومن أبرز وأعظم وأجل المعاني في هذه الأيام هي التضحية والفداء حيث عندما رأى خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام في المنام بأنه يذبح ولده بعد طول غياب وفلذة كبده قال ( يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ) ورؤيا الأنبياء وحي وحق ، اختبار كبير وامتحان عسير لكن هو يسير على من يسره الله عليه كما قال تعالى ( إن هذا لهو البلاء المبين ) أي الواضح الجلي البين ، فكانت حكمة الله عز وجل أن يقتدي الحجيج بأعظم تضحية عرفها التاريخ وأصبحت واجبا على الحجيج وميسوري الحال من سواهم ، إذ قال الله عن ذلك ( وفديناه بذبح عظيم ) بدلا من ذبح ابنه إسماعيل .
فديننا دين تضحية وفداء ، لكن هذه تحتاج إلى إيمان كبير وعمل صالح ومرتبة عليا من الإيثار والإحساس بالغير وعامة المسلمين ، وما مكن الله عز وجل لهذه الأمة وأصبحوا أسياد الدنيا وفتح الله بهم البلاد وقلوب العباد إلا بالتضحية والفداء وما فيهما من معاني عزيزة وفريدة قلت في هذه الأيام .
إن بذل الغالي والنفيس في سبيل الله من أموال ودماء لا لشيء إلا إرضاء لله تعالى وإعلاء لكلمة الحق هذا من أسمى وأروع معاني التضحية ، وما قام به الصحابة الكرام من ترك الغالي والنفيس من أموال وعشيرة وثروات في سبيل مبدأ ارتضوه لأنفسهم بعد أن امتلئت قلبوهم بالإيمان لمثال حي وراسخ يجب أن يحتذى به ، وبذلك تقوم الأمم وليس غريبا أو بعيدا أن نقول بأن مقياس نجاح وفلاح وبقاء الأمم والشعوب مرتبط بشكل وثيق وكبير بالتضحية والفداء ، والجهاد في سبيل الله يظهر بشكل جلي وواضح هذه المعاني وهو ذروة سنام الإسلام .
ونحن اليوم نمر بعيد الأضحى الخامس بعد احتلال العراق عام 2003 يجب أن نقف وقفات تأمل ومقارنة وتفكر هل ضحينا أم ضحى بنا الآخرون ؟!!! وأين نحن ولسان حالنا نصرخ ليل نهار ونعيش أصعب الظروف وأعتى الأعداء وأشد والمحن ، فأين الأمة الإسلامية وأين الأخوة اليعربية وهل فقدنا معاني التضحية والفداء هذه الأيام حتى أصبح حالنا في المؤخرة بين الأمم ؟!!! وأين معاني التضحية التي يجب أن نستذكرها هذه الأيام مما حل بنا من قتل وتشريد واضطهاد وتنكيل وتهديد ووعيد وشتات لم يشهد له التاريخ مثيل وغربة ما بعدها من غربة وكل ذلك في ظل التطور المزعوم وحقوق الإنسان المنشودة ونشر الحريات والعولمة لكن ( ومن لم يجعل الله له نورا فما له منة نور ) .
كان الأجدر بأمة المليار ونصف المليار مسلم أن تثقف أبنائها لهذه المعاني ولا يفرق بين جنس وآخر أو لون وغيره أو بلد وخلافه ، وهذا الضعف في هذه المبادئ ظهر جليا في محنة الفلسطينيين في العراق فلم تتحمل الأمة الإسلامية مسؤوليتها تجاه أقلية مستضعفة ذبحت وتقرب ذباحها إلى الله وآل بيته بذبحهم مظهرين كل الحقد الأعمى والدفين الفارسي الصفوي الشعوبي بدعوى التشيع وحب آل البيت ونحن والله وبالله وتالله أقرب إلى آل بيت النبوة ونحبهم أكثر منهم .في زمن تلاشت فيه شعارات العروبة والقومية ودعاوى الوطنية وغيرها حتى ضحى بنا القريب قبل البعيد وكأننا قربة لبقاء بعض الكراسي وفداء للضحك على ذقون السذج وترويجا لهتافات ومقولات وشعارات أكل عليها الدهر وشرب ، لذلك لابد أن نقف وقفات سريعة نرسل من خلالها برسائل عاجلة لبيان الحقيقة الخافية وتمييز الضحية وهم فلسطينيو العراق !!! ومعرفة من ضحى بهم حقيقة بعيدا عن المزايدة والمبالغة .
نحن ضحية الظلم والاستكبار العالمي :
طبعا هذه قد يتخذها بعض من يدعي التضحية والفداء شعارا له من خلال رفعها ضد قوى الاستكبار والجبروت وهو قد صدق في هذه الجزئية لكن سقط في تناقضات كثيرة ، ونحن نمر في ظل خصومات كبيرة وطغيان لا حدود له وظهور قوى تدعى أنها عظمى والعظمة لله العلي القدير ، كأمريكا والعدو اليهودي وغيرها من قوى الشر والظلم والطغيان كل هذا أدى لضياع حقوق الضعفاء والأقليات وأصبحوا ضحية نزاعات وخصومات لا دخل لهم بها ، والفلسطينيين في العراق هم بالدرجة الأساس ضحية الاحتلال الأمريكي المتجبر المتكبر على العراق ، وبالأساس نحن ضحية المحتل اليهودي المغتصب لأراضينا عام 48 ، فلولا هذا الشتات والطرد بالقوة من أراضينا لما تهجرنا وتشتتنا إلى معظم دول العالم .
نحن ضحية الميلشيات الطائفية المدعومة من إيران :
يكاد يكون المتسبب الأساسي في محنتنا بعد المحتل الأمريكي هي تلك القوى الظلامية والميليشيات المدعومة من إيران التي تدعي الإسلام وحب آل بيت النبوة إلا أنهم قد ضحوا بنا وتقربوا إلى آل البيت بنا على أساس أننا نواصب سنة وهابيين تكفيريين مرتدين صداميين بعثيين من أبناء العامة ، وهذه كلها تسميات لمسمى واحد يستحل دمه ، فمعظم القتل والخطف والتعذيب والتهديد والوعيد الشديد قد جاءنا من قبل أولئك الطائفيين الشعوبيين الذي يدعون التشيع وحب آل البيت وقد ثبت باليقين بأن معظم المدد والأسلحة التي كانوا يستخدمونها بذبحنا وقتلنا والتنكيل بنا إيرانية الصنع ، ولا غرابة فيمن ولائه للفرس ويريدون عودة الصفوية بكل أفعالها البربرية ، فكل من قتل وجرح وتعذب وأصيب بعاهة مستديمة ، وكل أرملة أو يتيم ، وكل من عاش في الصحراء وتشرذم وابتعد عن أهله وماله وأصحابه وأقربائه ، وكل من انحرف وتخلى عن مبادئه فوزره يرجع إلى تلك الميليشيات وأبرزها جيش المهدي وقوات بدر ، لأنهم المتسبب الأقوى في كل ما جرى ويجري لأهلنا في العراق وجميع أماكن الشتات الجديدة ، كما أن ولد آدم الأول عليه وزر كل من قتل بغير حق لأنه تسبب في ذلك وأول من سن القتل .
نحن ضحية الحكومة العراقية الطائفية :
بعد احتلال العراق عام 2003 وتسلم زمام الأمور لشخصيات طائفية بدأ الاستهداف ضد الوجود الفلسطيني جليا وبدعم مباشر من العديد من الشخصيات الرسمية الممثلة في الحكومة العراقية وهذا أمر ملموس ومشاهد ولا يغرنكم ما يحاولوا تلميع صورتهم من خلال بعض التصريحات أو من خلال بعض المتعاطفين معهم والمتعاونين معهم من المحسوبين علينا ، فالحقيقة التي لا مرية فيها أننا ضحية تلك السياسات الطائفية والفئوية المبررة طائفيا وعنصريا .
نحن ضحية الأمة الإسلامية :
الأمة الإسلامية للأسف الشديد تمر بفترة محزنة ومؤلمة بكل المعاني والمقاييس ، وبدلا من إظهار معاني التضحية والفداء في محنة عرف بها القاصي والداني فضلا عن عامة المسلمين والنبي عليه الصلاة والسلام يقول ( ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به ) ومن لم يهمه أمر المسلمين فليس منهم ، لكن نجد الحال معكوس فأكثر من ثلاثة آلاف فلسطيني يفترشون الرمال يعيشون على المساعدات والمعونات التي في الغالب لا تكفي لسد جوعهم ومنهم محاصر لازال في العراق لا يملك أجرة السيارة التي تقله إلى الصحراء كي يفر بنفسه ودينه وعرضه والسكوت عن حقوق الفلسطينيين في العراق وعدم المطالبة بها هذا نوع آخر من التضحية وعدم الاهتمام بتلك القضية إعلاميا ولا قانونيا ولا إغاثيا بل هنالك إهمال واضح وكبير لتلك القضية فشعب يذبح ويشرد وعندما نسأل البعض يقول هل حقيقة يوجد في العراق فلسطينيين !!! نعوذ بالله من الخذلان .
نحن ضحية الأمة العربية :
يكاد يكون القرن المنصرم وبداية هذا القرن من أكثر الفترات ترويجا للشعارات والهتافات والمقولات التي تدعي العروبة والقومية ولا زال الكثير يدافع عن العديد منها ، إلا أن واقع الحال فشلت كلها عندما عرضت على اختبار صغير للغاية وبسيط في ظل أزمة وقضية اسمها " فلسطينيو العراق " فالكل تخلى سواء على المستويات الرسمية أو المدنية أو الشعبية إلا من رحم الله وقليل ما هم ، فكنا ضحية أمة العرب التي طالما أنشدت ( بلادي .. بلادي ) و ( بلاد العرب أوطاني ) وغيرها من الكلمات التي لم تلامس النخوة العربية الحقيقية فكانت مجرد تنفيس عن أوهام وتطلعات تلاشت وانقرضت عندما تعرضت لمحنة بسيطة وفتنة مبكرة .
فسدت الحدود العربية بوجهنا وأصبحنا عبئا ثقيلا على العرب حتى أن رفوف وأدراج الجامعة العربية ملئت بالرسائل والنداءات بل والتقارير والصور التي تبين المذابح ولا حياة لمن تنادي !!.
هل تعلمون بأن الفلسطيني في الدول العربية أصبح تهمة بحد ذاته إلا من رحم الله من الدول التي لا زال لديها حس إسلامي وعروبي !! وهل تعلمون بأن الفلسطيني الذي يثبت بأنه مولود في العراق تكون تهمته مضاعفة ويتعامل معهم بشكل مجحف !!! ناهيك عن التعامل في المطارات لأنك فلسطيني ومولود في العراق !!! فنقولها وبكل صراحة نحن قد ضحى بنا العرب ولم يلتفت إلينا وما أدل على ذلك من عدم قبول أو استضافة أي دولة عربية لأي فلسطيني مهجر مشتت مغلوب على أمره مضطهد من العراق ، ودول أوربا وأمريكا اللاتينية تستقبل آلاف منهم ، فنعوذ بالله من الخذلان .
نحن ضحية المسؤولين الفلسطينيين الرسميين وغير الرسميين :
للأسف نحن أحد أسباب ضعفنا وتشرذمنا عدم وجود جهة رسمية قوية لها منعة وغلبة تطالب بحقوقنا الضائعة ، وهذه سنة كونية لا سيما في ظل عصر الاستكبار والطغيان ولا يضيع حق وراءه مطالب ، أضف إلى ذلك بأن بعض المسؤولين الفلسطينيين الرسميين المعنيين ضحى بنا وذبحنا على القبلة عندما برر قتلنا وتهجيرنا وقال بأن ما يصيبنا هو حالة عامة وليس استهداف طائفي ولا عنصري ولا فئوي !!!! وقس على ذلك بقية المواقف المخزية والمخجلة .
للأسف هنالك تفرقة عنصرية وفئوية للعديد من المؤسسات والأحزاب والفصائل الفلسطينية بين أبناء البلد الواحد ، فهنالك إقصاء واضح وقصور ظاهر في التعامل مع قضية اللاجئين الفلسطينيين ، ومن بدأ يكون له دور بدأ متأخرا ولازال القصور يكتنف الجميع على المستويات الإغاثية والإعلامية والاجتماعية والقانونية ، وهنالك جهات قد استغلت الظرف الصعب الذي نمر به وضحت بنا لأجل مصالح فئوية خاصة وهنالك مزايدات علينا من قبل العديد من المؤسسات حتى أن البعض أصبح يشحذ باسمنا وصرنا عنوان لأشياء دنيئة ، وهنالك من انتفع في محنتنا كل أولئك قد ضحوا بنا علموا أو لم يعلموا .
نحن ضحية الإعلام الإسلامي والعربي والفلسطيني :
نحن نمر بفترة مظلمة من خلال تسييس الإعلام حتى على المستويين الإسلامي والعربي ولا أحد يزاود في ذلك فأنا مررت بتجربة مريرة مع بعض القنوات التي للأسف محسوبة على الإسلامية والبعض الآخر عربية فكان التعاطي مع قضيتنا سلبي للغاية ، والكل يعلم ما للإعلام من أثر كبير في إظهار المظالم ونصرة الحق في ظل التطور الهائل في هذا المجال لكن إنصافا نقول بأن القناة الوحيدة التي لها دور في إظهار محنتنا هي قناة الجزيرة الفضائية وهذا يعرفه القاصي والداني من أهلنا ، مع أن غيرها من الوكالات والإذاعات والصحافة لها دور ونخص بالذكر إذاعة دار السلام ، وعلى مستوى المواقع على الشبكة العنكبوتية فلحد الآن فقط موقعان من ينقل كل صغيرة وكبيرة تخص الفلسطينيين في العراق وهما موقع " فلسطينيو العراق " وموقع " بلا حدود " فوفقهم الله لذلك وآجرهم على ما يقدموا من إظهار لتلك القضية .والعجيب في ذلك هنالك مؤسسات عديدة وقنوات كثيرة وكل له برامج متعددة ومواقع إلا أن الأمر فيه قصور كبير من هذه الناحية .
وطالما نحن مسامون فهذا يصبرنا ويسلينا ويواسينا ، والمؤمن يبتلى على قدر دينه وطريق الإسلام ليس طريق مريح أو مفروش بالورود وقدرنا أن نبتلى ونمتحن في هذه الدنيا أكثر من غيرنا عسى الله أن يكتب لنا الأجر في ذلك إن صبرنا ، يقول ابن القيم رحمه الله (والطريق طريق تعب فيه آدم ، وناح لأهله نوح ، ورمى في النار الخليل ، وأضطجع للذبح إسماعيل ، وبيع يوسف بثمن بخس ، ولبث في السجن بضع سنين ، ونشر بالمناشير زكريا , وذبح السيد الحصور يحيى ، وقاس الضر أيوب ,وزاد على المقدار بكاء داود ، وسار مع الوحش عيسى ، وعانى من أنواع الأذى كلها محمد صلى الله عليه وسلم ) .
فالحقيقة المرة ونحن نستذكر معاني التضحية في هذه الأيام ، أننا أصبحنا ضحية وقدمنا الأعداء والأصدقاء قربة وفداء ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ونسأل الله القدير أن يهيء لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيته ويؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر وينصر فيه المظلوم ويؤخذ بيد الظالم إنه ولي ذلك والقادر عليه .
أيمن الشعبان
باحث متخصص بشأن الفلسطينيين في العراق
10/ذي الحجة/1429هـ
8/12/2008