وموضوع حديثنا اليوم هو ما قام به سفير العراق في الولايات
المتحدة الأمريكية، حينما أبدى إمكانية إقامة علاقات طبيعية مع الكيان الصهيوني،
وأن عوامل نجاحها كثيرة، ثم استدرك سريعًا، بالقول: "إلا أن هذه الأسباب
غير كافية للتطبيع، مع وجود أسباب معنوية واعتبارية تمنع التواصل مع "إسرائيل"".
أقرَّ السفير في لقائه بصعوبة إقامة تلك العلاقة
نظرًا للاعتبارات المعنوية، ويقصد بها حقوق الشعب الفلسطيني الذي تغتصب
"إسرائيل" أرضه، وهو في ذلك كان يعبر عن وجه نظر السياسيين العراقيين
الذين يتاجرون بموضوع القضية الفلسطينية
السفير العراقي فريد ياسين اعتبر نفسه ذكيًا في تصريحه هذا،
وسينال رضا سياسيي بغداد، لأنه عبَّر عن وجهتي نظر مختلفتين يتبناها
سياسيو المنطقة الخضراء في بلده، لكنه بدلًا من ذلك، أغضب الطرفين وأصبح مصيره
كسفير للعراق، مهددًا بشدة، فهو حينما أوحى بإمكانية عقد مثل هذه العلاقات بين
بلده والكيان الصهيوني، كان يناغم فريقًا من السياسيين العراقيين الذين أعلنت
"إسرائيل" قيامهم بزيارتها، وبنفس الوقت، لم يبتعد كثيرًا عن موقف
وزير الخارجية العراقي محمد الحكيم حينما اعترف بحق "إسرائيل" بالوجود،
ولم يبتعد عن وجهة نظر الساسة الكرد الذي يؤمنون بأن من الحكمة تبني "السلام"
مع "إسرائيل" ونبذ العنف وإقامة علاقات طبيعية مع "إسرائيل".
ثم أقرَّ السفير في لقائه بصعوبة إقامة تلك العلاقة لاعتبارات
معنوية، ويقصد بها حقوق الشعب الفلسطيني الذي تغتصب "إسرائيل" أرضه، وهو
في ذلك كان يعبر عن وجه نظر السياسيين العراقيين الذين يتاجرون بالقضية
الفلسطينية. وكان السفير يأمل من إرضائه للطرفين، الحصول على مكافأة منهما،
لكن الطرفين اتفقا على استهجان أقواله والحكم عليه بالشطط وتشويه الموقف العراقي
من تلك القضية.
قد فعلها غيره من قبل
التصريحات غير المتوازنة للسفير العراقي في واشنطن، لم تكن جديدة
على الدبلوماسية العراقية لحكومات ما بعد الاحتلال، فقد فعلها قبله وزير الخارجية
محمد الحكيم، حينما أدلى بتصريحات مشابهة لتلك التصريحات، قال فيها إنه يؤمن
بحل الدولتين، التي فُهم منها أنها اعتراف عراقي بالدولة "الإسرائيلية"،
وحقيقة الأمر أن الوزير "الحكيم" جانب الحكمة هذه المرة، ولم يستطع
إرضاء كل الأطراف السياسية العراقية بتصريحاته تلك، رغم أن تصريحاته لم تخرج عن
الموقف الرسمي العراقي الذي وقع عليه مع باقي الدول العربية فيما يسمى بـ"المبادرة
العربية" في قمة بيروت عام 2002، وأكدتها الدول العربية في قمة بغداد عام
2012، التي أقرَّت اعتراف العرب بـ"إسرائيل" مقابل انسحابها من الأراضي
العربية التي تحتلها، وضمان تشكيل دولة فلسطينية قابلة للحياة.
التخبط في السياسية الخارجية يبقى انعكاسًا لما يجري من
تخبط في النظام السياسي العراقي ومرأة له
فما كان من محمد الحكيم إلا أن استعاد حكمته من جديد،
وصحح تصريحاته وقولبها بشكل آخر، فقال إن العراق مع حقوق الشعب العربي
الفلسطيني، ويؤمن بـ"المبادرة العربية" التي وقع عليها العراق، فسكتت
الأصوات المنتقدة له، رغم أن تصريحه الأول لا يختلف من حيث الجوهر عن تصريحه
الثاني.
إن التخبط في السياسية الخارجية يبقى انعكاسًا لما يجري من تخبط في
النظام السياسي العراقي ومرأة له، فقد شهدت السنوات التي توالت فيها حكومات
ما بعد الاحتلال، نماذج دبلوماسية هزيلة جعلت سمعة العراق في الحضيض، فمنهم من جعل
نفسه مروجًا لمراكز تجميل إيرانية، وهذا ما فعله القنصل العراقي ياسين شريف
نصيف في قنصلية العراق بمدينة مشهد، حينما روج لمركز تجميل إيراني، ولم
يكتف بذلك، بل وضع خلفه علم إيران وهو داخل مبنى القنصلية العراقية.
ومنهم من حوَّل سفارة العراق إلى مركز لنشر التشيع في بلدان العالم
استجابة لسياسية الأحزاب الشيعية الطائفية التي تديره، حينما روج السفير العراقي
في الجزائر لبرامج زيارات "دينية لـ"المراقد الشيعية""
في العراق، الأمر الذي أثار حفيظة الحكومة الجزائرية وأحدث أزمة دبلوماسية بين
البلدين، وضبط الأمن الجزائري الكثير من الكتب التي تروج للتشيع بصحبة
الزائرين الجزائريين العائدين من العراق.
ناهيك عن حالات التفسخ الخُلُقي الذي قام بها بعض الدبلوماسيين
العراقيين في البلدان الغربية، فقد كشفت صحيفة رومانية أن امرأتين رومانيتين
قدمتا شكوى لدى السلطات بحق قنصل عراقي يعمل بالسفارة العراقية في
بوخارست، قام بالتحرش جنسيًا بهما. ولا نريد ذكر ما فعله ويفعله أبناء
الدبلوماسيين العراقيين في تلك البلدان من تصرفات لا أخلاقية.
ما أسباب التخبط في التمثيل الدبلوماسي العراقي؟
واحد من أهم أسباب هذا التخبط في التمثيل السياسي للعراق
خارجيًا، هو خضوعه للمحاصصة الحزبية والطائفية حاله كحال كل مؤسسات الدولة
العراقية، فحينما كان الوزير كرديًا تحولت سفارات العراق لمراكز دعاية للدولة
الكردية المنشودة، وطريقة للانفتاح الكردي على دول العالم، وحينما استلمها
الجعفري تحولت إلى مراكز لنشر التشيع وتبني وجهات النظر الإيرانية في المحافل
الدولية التي يشارك فيها العراق.
وفي عهد الحكيم الذي جاء وبجعبته خططًا يريد أن يطور
خلالها الدبلوماسية العراقية كما يظن، وجد نفسه خاضعًا رغم أنفه، للمحاصصة
الحزبية التي بُني عليها النظام السياسي العراقي.
يبقى موقف العراق من القضية الفلسطينية ضبابيًا، غير
واضح، بسبب عدم استقلالية قراره السياسي، فهو يتجاذب بين النفوذ الإيراني
ووجهة نظره حيال تلك القضية، والنفوذ الأمريكي ورؤيته لحل القضية الفلسطينية
ورغم أن تعيين السفراء من صلب مهام وزير الخارجية، لكنه وجد
أن السفراء الـ80 الشاغرون في سفارات العراق، تتنازع عليهم الكتل
السياسية، وتريد توزيعهم وفق المحاصصة، حتى إن ظافر العاني عضو لجنة الشؤون
الخارجية بـ"البرلمان"، صرح بشكل علني، بأن لكل عشرة نواب حصة سفير
واحد، وسيتم قسمة أولئك السفراء وفق هذا التقسيم، دون الرجوع لوزير الخارجية
المسؤول المباشر عن تلك التعيينات، الأمر الذي جعل الوزير الحكيم يستشيط غيظًا،
فاقترحوا إعطاءه حصة من تلك التعيينات ليختار لنفسه من يشاء من السفراء لإرضائه،
وكأنهم خرفان يُوزعون ليلة عيد الأضحى.
مواقف العراق الخارجية ضبابية
يبقى موقف العراق من القضية الفلسطينية ضبابيًا، غير واضح، بسبب
عدم استقلالية قراره السياسي، فهو يتجاذب بين النفوذ الإيراني ووجهة
نظره حيال تلك القضية والنفوذ الأمريكي ورؤيته لحل القضية الفلسطينية.
نفس الشيء ينطبق على موقف العراق من قضايا دول الإقليم والقضايا
العالمية، الأمر الذي جعل العراق يتورط بمواقف خارجية غاية في الإحراج، بسبب
تبنيه رؤية النظام الإيراني حيال قضايا عديدة مثل قضية
البحرين والعقوبات الاقتصادية على إيران، وموقفه من التحالف العربي في اليمن،
نفس الشيء مع الأردن وتركيا، ولولا تفهم تلك الدول لما يمر به العراق من ظروف صعبة تجعله
فاقدًا لإرادته السياسية، لكانت العلاقة مع تلك الدول في أسوأ حالاتها.
المصدر : ن بوست
7/11/1440
10/7/2019