الفلسطينيون المرحلون من الحدود الأردنيّة العراقيّة إلى البرازيل، لم ينشدوا في الطائرة: بلاد العرب أوطاني، فبلاد العرب في هذا الزمن صارت أوطان السيرلنكيات، والفلبينيات، والروسيات اللاتي تعلمّن الرقص الشرقي في (الشرق الأوسط الجديد) الراقص على إيقاع زيارات وأوامر كوندوليسا، شرق الغافلين عن تقسيم العراق، والمشاركين بصمت، أو بالعلن، بهمّة عجيبة، في تصفية قضية فلسطين، وتشتيت شعبها.
الفلسطينيون المرحلون إلى البرازيل، صدّوا بحدود عاتية لا تفتح في وجوههم، حتى لا ينتشر فيروس فلسطين، وما أدراك ما فيروس فلسطين، هم الذين طاردهم الشعوبيون، وعملاء (الموساد)، في بغداد، حتى الحدود التي لم تفتح ذراعيها لاستقبال الأخوة في العروبة والإسلام! .
الفلسطينيون في الطائرة رحلوا واجمين، إذ كيف ستتعلم الأم الفلسطينيّة العجوز وهي في هذا العمر اللغة البرتغاليّة - لغة البرازيل - لتبدأ حياةً جديدة في ذلك البلد الأمريكي اللاتيني البعيد ألوف الأميال عن فلسطيني التي ولدت فيها قبل 73 سنة؟! .
وماذا ينتظر تلك الصبيّة التي لم تكمل دراستها الثانوية، والتي كانت تحلم بأن تتخرج مهندسة من جامعة بغداد، كليّة الهندسة، أحدث كليّة هندسة في (الشرق الأوسط)، راسمة مخططا أوليا للبيت الذي ستبينه على أرض جدّها في (أم الزينات) بعد العودة، مهما طال الزمن؟! .
وهل سليتقي (يوسف) بحبية قلبه، هو المرحّل مع أسرته إلى السودان؟ أين في السودان؟ كردفان!. هل سيذوي حبّهما، وينهي البعد والقنوط، كل أحلامهما بمكان آمن يستأنفان فيه حياتهما، ودراستهما، ويبنيان فيه أسرةً بعد أن ينهيا دراستهما الجامعيّة - ليس لبنان بالتأكيد، فهناك الفلسطيني غير مسموح له بالعمل، ولكن بالموت جوعا وقهرا - وكعادة الفلسطينيين يسهمان في محو الأميّة في بلاد العرب، مواصلين رسالة من سبقوهما من نساء ورجال فلسطين!.
من دارفور هربت أسر سودانيّة، ودخلت إلى فلسطين المحتلّة، واستقبلت، واستخدمها الكيان الصهيوني في حملة دعاوية (إنسانيّة) يضرب فيها عدّة عصافير بحجر واحد، بروبوغندا مفضوحة ملعوبة جيّدا، بينما الفلسطيني يرحّل إلى البرازيل، والسودان، و...
دول (الجامعة العربيّة) كلّها تتحدث عن مآثرها تجاه فلسطين وشعب فلسطين، وتتنافس في سرد كشف حساب عن تلك التضحيات، ولكنها مجتمعة ومنفردة وقفت متعاجزة - لأن موقفها مفتعل، انصياع لأوامر - تتفرّج على الفصل الجديد من مأساة عرب فلسطين! كل أكاذيب نظم الحكم الإقليميّة يفضحها العذاب الفلسطيني المتعمّد، الذي غايته دفع الشعب الفلسطيني للقبول بأي حل تقترحه الإدارة الأمريكيّة، والكيان الصهيوني.
ماذا سيحدث لو استقبل الأردن أو سوريّة بضع مئات من الفلسطينيين المنكوبين؟ هناك ملايين العراقيين في سوريّة، والأردن، والسعوديّة، وليبيا، واليمن و..حتى بلاد المغرب العربي الكبير.
المطلوب هو تعذيب الفلسطينيين، تيئيسهم، تعجيزهم، إفقادهم كل أمل، تكفيرهم بعروبتهم، دفعهم للتنازل عن حقّهم في وطنهم، إفقادهم الأمل من إمكانية العودة ما داموا يشحنون إلى البرازيل، وقفار السودان - يشكر السودان على تجاسره استقبال بضع مئات - التي تبقى رغم المخاطر هناك أقرب إلى فلسطين، فبينهم وبين وطنهم مصر فقط! .
سوف يشار إلى فلسطينيي البرازيل: من أصل فلسطيني، بعد جيل واحد.. وفي بلاد العرب يراد من الفلسطيني أن يكون بلا أصل، بلا هوية، بلا انتماء، بلا روح، بلا عقل يفكر ويميّز ويختار ويحاكم ويحاسب و..ولذا شحن الفلسطينيون المنكوبون إلى البرازيل ليعيشوا هناك مع بقايا الهنود الحمر! .
أربعة أعوام والفلسطينيون التعساء الفارون من الموت الطائفي، من وحشية الخونة والعملاء، وهم يعيشون تحت الخيام في (مخيّم الرويشد) على الحدود الأردنيّة العراقيّة إلى أن انتهى الأمر بتوزيعهم على البرازيل والسودان و..أمكنة ما خطرت لهم ببال!.
وعلى الحدود السوريّة ما زالت أسر فلسطينيّة تعيش تحت الخيام، لا يسمح لها بالدخول إلى سوريّة، وهناك حوالي 59 فلسطيني سمح لهم بالدخول قبل بضعة أشهر، طلب منهم أن يغادروا إلى الحدود العراقيّة، ولم تنجح وساطات قيادات فصائل المعارضة الفلسطينيّة في إبقائهم! .
أهذا هو دعم نضال وكفاح وجهاد الشعب العربي الفلسطيني؟! .
هل سيتسبّب هؤلاء الفلسطينيون بأزمة غذائيّة اقتصادية لو سمح بعبور الحدود الأردنيّة والسوريّة نجاةً من مناجل الموت الطائفي المسعور؟! أهم مشكوك في عروبتهم ويشكلون خطراً أمنيّاً؟! هناك أكثر من مليون عراقي يقيمون في سوريّة، فلماذا لا تفتح دمشق حضنها العربي لتخفف معاناة هذه الأسر المنكوبة؟! ماذا جرى للحارة الشاميّة التي عهدناها قلب العروبة، التي ياما فتحت ذراعيها وقلبها لكّل عربي، ولم تغلقه في وجه أحد، اللهم سوى فلسطينيي العراق؟! .
كيف يمكن أن تعقد مؤتمرات تتمسّك بحّق العودة، ومواجهة سياسات التفريط، في كنف دمشق، بينما بضع مئات من الفلسطينيين يرمون تحت الخيام منذ سنوات في حرمان، وقلق من تفشّي الأميّة بين أبنائهم وبناتهم، وهم بلا مدارس، ولا جامعات؟! .
بحسب ما أعي، فإنه لا يوجد بلد عربي مشرقي تعامل مع الفلسطيني بأخوّة خالصة، فالفلسطيني دائما متّهم، منبوذ، مميّز ضده، مأكول مذموم..
من المؤلم أن القيادات الفلسطينيّة رسميّةً ومعارضة، تنافق وتجامل هذه الأنظمة، وتمتدحها ليل نهار، وتسبّح بحمد أفضالها ومآثرها، بينما أهلنا يموتون في مخيمات الحدود، ولا يجدون سوى البرازيل تشفق عليهم بلفتة إنسانيّة بعد تدخّل جهات دولية.
هذا الذي يحدث للفلسطينيين ليس بريئاً، ولا مصادفا، إنه مقصود، يهدف إلى دفع الفلسطينيين للقبول بالتوطين، نعم: القبول بالتوطين، والتنازل عن حّق العودة.
ستنجح هذه الفعال في مراكمة عذاب شعبنا، ولكنها لن تكسر روحه، وستبقى حيّة في الذاكرة، فكّل دمعة فلسطيني، وكّل لحظة ألم، وكل ساعة معاناة وغربة..
لن تنسى، والأيام بيننا، ففلسطين هي الباقيّة، وهي النار التي جمرها يتأجج تحت الرماد، ونحن نرى هذه النار التي حذّر منها شاعر حيفا أستاذنا حسن البحيري:
وفلسطين لم تكن لعبة اللاعب
فقل لي : جمرها كيف يلمس؟!
نار فلسطين قادمة: العرب الغرباء في أوطانهم، المقهورون المغيّبون في بلادهم، سيحملون شعلتها التي لن تنطفىء، لأنها كلمة السر لتخطّي عصر الانحطاط العربي الذي بلغ حضيضه.
رشاد أبو شاور / كاتب وروائي من فلسطين المحتلة يقيم في الأردن