قال تعالى ( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ
وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ
)[1].
بعد أن بين الله سبحانه ملكه المطلق وقدرته التامة، وخلقه المتقن
للسماوات وامتناع العيب والخلل فيها، شرع في بيان نعمة جديدة ومنة عظيمة، هي تلك
النجوم المضيئة والكواكب المنيرة في السماء، فقال ( ولقد زينا السماء الدنيا
بمصابيح )، وتسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها.
انتقل من دلائل انتفاء الخلل عن خلقة السماوات، إلى بيان ما في إحدى
السماوات من إتقان الصنع فهو مما شمله عموم الإتقان في خلق السماوات السبع وذكره
من ذكر بعض أفراد العام كذكر المثال بعد القاعدة الكلية.[2]
( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا ) بيانٌ لكونِ خلقِ السمواتِ في
غايةِ الحسنِ والبهاءِ إثرَ بيانِ خُلوِهَا عن شائبةِ القصورِ وتصديرُ الجملةِ
بالقسمِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بمضمونِهَا أي وبالله لقد زيَّنا أقربَ السمواتِ
إلى الأرضِ ( بمصابيح ) أي بكواكبَ مضيئةً بالليلِ إضاءةَ السرجِ من السياراتِ
والثوابتِ تتراءى كأن كُلَّها مركوزةٌ فيها مع أنَّ بعضَها في سائرِ السمواتِ وما
ذاكَ إلا لأنَّ كلَّ واحدةٍ منها مخلوقةٌ على نمطٍ رائقٍ تحارُ في فهمِهِ الأفكارُ
وطرازٍ فائقٍ تهيمُ في دركِهِ الأنظارُ ( وجعلناها رُجُوماً للشياطين ) وجعلنَا
لها فائدةً أُخرى هي رجمُ أعدائِكُم بانقضاضِ الشهبِ المقتبسةِ من نارِ الكواكبِ
وقيلَ معناهُ وجعلنَاهَا ظنوناً ورجوماً بالغيبِ لشياطينِ الإنسِ وهم المنجمونَ
ولا يساعدهُ المقامُ والرجومُ جمع رَجْمٍ بالفتحِ وهو ما يُرجمُ بهِ ( وَأَعْتَدْنَا
لَهُمْ ) في الآخرةِ ( عَذَابِ السعير ) بعد الاحتراقِ في الدُّنيا بالشهبِ.[3]
عن قتادة ( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ
وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ) إن الله جلّ ثناؤه إنما خلق هذه النجوم
لثلاث خصال: خلقها زينة للسماء الدنيا، ورجومًا للشياطين، وعلامات يهتدي بها؛ فمن
يتأوّل منها غير ذلك، فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلَّف ما لا علم
له به[4].
وأعتدنا للشياطين في الآخرة عذاب السعير، تُسْعَر عليهم فتُسْجَر[5].
وذكر التزيين إدماج للامتنان في أثناء الاستدلال، أي زيناها لكم مثل
الامتنان في قوله: ولكم فيها جمال في سورة النحل، وأصل أعتدنا أعددنا أي هيأنا،
قلبت الدال الأولى تاء لتقارب مخرجيهما ليتأتي الإدغام طلبا للخفة.[6]
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الدَّلِيلُ الثَّانِي عَلَى كَوْنِهِ
تَعَالَى قَادِرًا عَالِمًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ نَظَرًا إِلَى
أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ وَمُخْتَصَّةٌ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ، وَمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ،
وَسَيْرٍ مُعَيَّنٍ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَانِعَهَا قَادِرٌ وَنَظَرًا إِلَى
كَوْنِهَا مُحْكَمَةً مُتْقَنَةً مُوَافِقَةً لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ مِنْ
كَوْنِهَا زِينَةً لِأَهْلِ الدُّنْيَا، وَسَبَبًا لِانْتِفَاعِهِمْ بِهَا،
تَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَانِعَهَا عالم، ونظير هذه الآية في سورة الصفات إِنَّا
زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ
شَيْطانٍ مارِدٍ.[7]
( وجعلناها رجوما ) أي جعلنا شهبها، فحذف المضاف، والدليل قوله تعالى(
إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب )[8]،
وَالرُّجُومُ جَمْعُ رَجْمٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ مَا يُرْجَمُ بِهِ.
ومصباح جمع مصباح وهو السراج وتنكيره للتعظيم والمدح اى بكواكب مضيئة
بالليل اضاءة السرج من السيارات، وجمع الشياطين على صيغة التكثير لكثرتهم في
الواقع.
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ إلخ كلام مسوق للحث على النظر قدرة
وامتنانا. وفي الإرشاد بيان لكون خلق السماوات في غاية الحسن والبهاء إثر بيان خلوّها
عن شائبة العيب والقصور وتصدير الجملة بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها أي
وبالله لقد زينا السماء الدُّنْيا منكم أي التي هي أتم دنوا منكم من غيرها فدنوها
بالنسبة إلى ما تحت وأما بالنسبة إلى من حول العرش فبالعكس.[9]
والخلاصة- أن نظام السموات لا خلل فيه، بل هو أعظم من ذلك، فقد زينت
سماؤه القريبة منا بمصابيح، هي بهجة للناظرين، وعبرة للمعتبرين، كما إن السماء قد
أضاءت على البر والفاجر، فالفجار حصروا أنفسهم في شهواتهم، فلم ينظروا إليها نظر
فكر وعقل، بل نظروا إليها باعتبار أن بها تقوم.[10]
5/ رمضان / 1434هـ
14/7/2013م
حقوق
النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر
المصدر"