وعلى أية حال فقد تظافرت جملة عوامل أسهمت في تعزيز
النفوذ الإيراني في المشرق العربي، أولها، الغزو الأمريكي للعراق (2003)، وقد
شهدنا أن إيران تواطأت مع الولايات المتحدة، في حينه، مرتين، مرة في غزو
أفغانستان، ومرة ثانية في غزو العراق، بحيث تم عبر تلك الغزوة إسقاط نظام صدام
حسين، المعادي لنظام "آيات الله"، وإزاحته من المشهد. وثانيها، أن
النظام العربي انقسم على نفسه في تلك الفترة لأسباب مختلفة، وفوق ذلك فهو أدار
ظهره للعراق، في ظل الاحتلال الأمريكي، الأمر الذي جعله لقمة سائغة لإيران والقوى
الموالية لها. وثالثها، أن الولايات المتحدة ومعها "إسرائيل" استثمرت في
إيران لتقويض البني الاجتماعية والدولتية في العراق، بحيث تم تقويض مؤسسات الدولة،
وضمنها الجيش، وفكفكة المجتمع العراقي، بتحويله إلى طوائف، كل واحدة منها تقف في
مواجهة الأخرى، بمعنى أن إيران، في أعوام قليلة، نجحت في العراق (ثم في سوريا
ولبنان)، بفعل ما عجزت "إسرائيل" عن فعله منذ قيامها، قبل سبعة عقود،
وهذا ما يفسر قيام الولايات المتحدة بالتسهيل لإيران في الهيمنة على العراق، وهو
ما حصل في سوريا، منذ العام 2011، أما ما يحدث اليوم، من كلام أمريكي عن إخراج
إيران، وإضعاف نفوذها، فقد أتى بعد أن قامت إيران بالمهمة.
المشكلة عندنا، أن البعض لا يريد أن يرى إيران على
حقيقتها، سيما بعد أن باتت بمثابة عامل داخلي في عديد من البلدان العربية، وخاصة
في سوريا ولبنان والعراق واليمن، إذ هي تلعب على الوتر الطائفي، وعلى البعد الديني
(بوصفها دولة دينية)، وتشتغل على توظيف الصراع ضد "إسرائيل" بما يخدم
تعزيز نفوذها، في حين أنها غير مستعدة لمواجهة "إسرائيل" مباشرة، بدليل
أنها سكتت على قيام "إسرائيل" بغارة على أراضيها، قبل عام، واستولت على
أرشيف كبير يتعلق ببرنامجها النووي، ثم إنها لم ترد على الغارات "الإسرائيلية"
المتكررة على قواعدها ومستودعاتها وجماعاته العسكرية في سوريا، إلى درجة إن "إسرائيل"
لم تعد تبالي بالإعلان صراحة عن إنها وراء تلك الغارات، في سابقة فريدة من نوعها،
وهو ما فعله نتنياهو قبل أيام.
أيضا، هذا البعض، لا يريد أن يرى نظام إيران كأحد
الأنظمة الاستبدادية والشمولية فثي المنطقة، وكواحد من أكثر الأنظمة التي تبدّد
ثروات شعبها، في غير ما يخدم أولوياته ومصالحه، المتعلقة بالارتقاء بمستويات
التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية والبنى التحتية والاقتصاد، وفي تأمين مستوى
معيشة أفضل. وبديهي أن ذلك يضعنا أمام نظام تتحكم به طبقتا رجال الدين («آيات
الله» و”الحرس الثوري»)، وأنه نظام يركز على تنمية القطاعات العسكرية، على حساب قطاعات
الإنتاج، ويؤسس قاعدته الاجتماعية على طبقة من المنتفعين، من العاملين في الدعاية
الدينية – الطائفية، ومن العاملين في الميليشيات والأجهزة الأمنية، ما يعزز من
علاقات الفساد والإفساد في المجتمع، ويفقر غالبية الإيرانيين.
فوق ما تقدم، فإن ذلك البعض يتناسى، أو يتصرّف، كأن
إيران دولة جوار عادية، مثلها مثل قبرص مثلاً، أو إثيوبيا، أو دول جنوب الصحراء،
وليست تلك الدولة التي أعلن أحد قادتها، بكل بجاحة، أنها باتت تسيطر على عواصم
عربية أربع، هي العراق ودمشق وبيروت وصنعاء، والتي باتت لها ميليشيات مسلحة في كل
تلك البلدان المذكورة، مع أجهزة دولة موازية، والتي تقوم بتغييرات ديموغرافية
كبيرة في هذه البلدان، لا سيما في العراق وسورية.
بعد كل ما تقدم، يمكن طرح السؤال الآتي: هل عوائد
سياسات إيران (المقاومة والممانعة) في العراق وسورية ولبنان، أضرت بـ"إسرائيل"
أكثر أم أفادتها؟ هل قوت هذه السياسات المجتمعات السورية والعراقية واللبنانية
إزاء "إسرائيل" أم أضعفتها؟
طبعاً هذا النقاش يتجاوز حقيقة أن نظام إيران، والأذرع
الطائفية المذهبية الميليشياوية المسلحة، الموالية له، دمرت وقتلت وشردت من
السوريين والعراقيين (ومعهم فلسطينيي العراق)، أكثر بكثير مما فعلت "إسرائيل"، علماً أن تلك دولة مصطنعة
واستعمارية واستيطانية وعنصرية، في حين تعتبر إيران نفسها غير ذلك، أو على النقيض
من ذلك.
الفكرة أنه لا يجوز وضع إيران مقابل "إسرائيل"،
ولا العكس، لأن لكل جريمة حسابها، وظروفها، ولا توجد جريمة تغطي أو تبرر أخرى،
وإذا كانت "إسرائيل" هي العدو الأول والمباشر للفلسطينيين، فإن نظام
إيران بات في مثابة عدو مباشر لغالبية العراقيين والسوريين وللإيرانيين أنفسهم،
ذلك أن قضايا الحرية والكرامة والعدالة لا تتجزأ.
المصدر : الغد
13/5/1440
19/1/2019