اختفى قرص الشمس تماما خلف التلال تاركا" المجال لليل الغابة العامر بالحركة في كل الاحوال. وبدت الشجيرات المحيطة به على سفح تلك التلة كأشباح منتصبة باطوال واشكال شتى بعد ان غشيها الليل. ايقن تماما" ان العدو لن ياتي لاخذه الى الاسر او يسعفه كما كان يظن هو ورفيقه الذي تركه هنا وحيدا وعاد الى الاهل خلف النهر.
وان نبض الحياة الذي بدأ يتسارع بحلول الظلام في غابة الشجيرات هذه , اخذ يأفل عن روحه القانطة من اي امل بالنجاة وجسده الضخم المثخن بالجراح والمفترش بقعه كبيرة من الدماء بحجم ذلك الجسد.
حاول جاهدا الزحف بجسده الثقيل الى الاعلى قليلا متكئا"على ما بقي حيا" من اعصاب في جسده الملقى على الارض وحابسا" على انفاس متقطعة شارفت على النزعة الاخيرة.
كان يريد ان يصل الى حضن شجرة الزعتر البري على بعد خطوة واحدة من راسه,فهي الابرز طولا بين شجيرات الزعتر التي تنتشر على سفح تلك التلة. وفي زفراته تلك والتي أيقن انها سكرات الموت الحتمي خامره شعور كبير بأن الموت ورأسه يتوسد الزعتر سيكون موتا" ذا قيمة.
فاصبح جل همه ان يصل براسه المدمى الى شجرة الزعتر تلك قبل ان يلقى وجه ربه. وهو يعلم انه بسعيه الى ذلك يكلف جسده الواهن نزفا" واحتضارا جهدا ربما يعجل في نهايته, وان كل عمل يقوم به الان وهو يموت وحيدا في هذه البرية سيكون نسيا" منسيا تطويه الايام.
ولكنه عشق الارض والوطن الذي اجتاح روحه في لحظات الاحتضار تلك. بل هو حب الحياة للهارب من الموت فالارض والوطن هما الحياة التي يحرص عليها.
وفي خلوة الموت والعجز اللذان يطبقان على روحه في هذه اللحظات لم يكن غير شجيرة الزعتر يرى فيها الارض والوطن فالحياة.
فهو منذ نعومة اظفاره قد الف تلك النبتة وعشق ريحها وطعمها الذي يستذكره الان كخيط رفيع يخالط علقم الموت الذي يتجرعه الان في ثبات, ومنذ كان صبيا في بلدته الوادعة في حضن الوطن يمضي وقتا طويلا بين يدي امه متراكضا على التلال يجمع الزعتر البري ويجففه ويقبل عليه بحب مع طعام الافطار. و حتى بعد ترك الوطن والهجرة خلف النهر بعيدا عن الديار لم ينسى نبتة الزعتر وعبق الارض فوق تلك التلال.
كان رجلا ذا جثة ضخمة عريض الاكتاف يتهادى في مشيته وكأنه يصعد مرتفعا فكان الرفاق يسمونه الرجل الجمل نعم الرجل الجمل حمال الاحمال. وربما بدأ يدرك الان وهو على هذا الحال ان هذه الارض التي يموت عليها الان هي النقطهة التي اختارها الله له لتكون فيها اللحظة التي يضع فيها احماله ويستريح بعد اربعين عاما من غربة الروح والوطن التي عاشها.
وفي حقيقة الامر ومنذ صباح هذا اليوم حين كان هو وثلاثة من الرفاق متجهين لمهاجمة احدى قواعد العدو على ارضهم فانه داخله احساس كبير بان اليوم سيكون يوم لقائه الابدي مع الارض التي عشقها فكان يقول للرفاق(اشعر انني لن اعود للاهل هذا اليوم. فيجيبه احدهم: تفائلوا بالخير تجدوه. فيبتسم واثقا وهو يقول: اطلب الموت توهب لك الحياة,بل هو الخير بعينه. وحتى عندما اطلق اطلاقتين من بندقيته قبل غروب شمس هذا اليوم بقليل على أمل ان ياتي افراد العدو لياخذوه للأسر فأنه فعل ذلك ليقنع رفيقه بالعودة الى الاهل خلف النهر وتركه يواجه مصيره, ولم يعلق على ذلك العمل املا كبيرا بالنجاة من الموت. ولان النجاة من الموت اصلا لم يكن بالشي الملح في نفسه الراغبة في الشهادة على ثرى الوطن, ولولا بعض شوق للاهل واشفاق عليهم من شدة الفراق لكان تمنى الموت صراحة. ولم يكن ليصغي لرفيقه ويطلق تلك الاطلاقتان طالبا الرحمة من العدو.
وحين نفذت ذخيرته في المعركة وانسحب جريحا مفلتا" من قبضة العدو بعد ان استشهد اثنان من رفاقه امام عينيه واختفى الثالث وظنه قد وقع في الاسر, فأنه قد عاد جريحا منكسرا" بدون الرفاق ومتعجبا" كيف يذهب الرفاق للموت او الأسر ويبقى هو وحيدا وربما عائدا الى الاهل وهو الذي كان يطلب الموت ويشتهيه على هذه الارض.
كان قد سلك طريق العودة من غير شعور كبير منه فلقد كانت شدة الجراح وصدمة فقد الرفاق والبقاء وحيدا قد اذهبت الكثير من قدرة التركيز لديه, فألفى نفسه جريحا عائدا محاولا اجتياز نفس التلال التي جاء من خلالها هو والرفاق عند الفجر.وقادة طريق الاهل الى ذلك الاتجاه برغم وعورة تلك التلال التي تنتشر عليها الشجيرات والصخور المتناثرة والتي اعاقت حركته بشكل كبير واجبرته على السير في طرق متعرجة بينها , زادت من حالة الاعياء والدوار التي يشعر بها بعد اشتداد نزف جراحة في تلك الاثناء.
وكثيرا ما كان يبرك جائيا للالتقاط الانفاس واعتصار الجراح ثم ينهض متكئا" على بندقيته التي ما زال يحتفظ بها رغم خلوها من الطلقات. وكانت بدايات اليقين لديه بانه سيموت في هذه الارض بالذات حين تعثرت قدمه بصخرة على تلك التلال فسقط على شجيرة زعتر ملئت رائحتها انفاسه والمكان,واسترخى جسده فوق تلك الشجرة يملأ رئتيه من رائحة الزعتر والارض وينزف فوقهما الدماء.
كان يعلم ان المسير في هذه التلال يكون خطرا خلال الليل فهي لا تخلو من ضباع برية وحتى ذئاب, شوهدت ضباع هنا من قبل هكذا كان يقول الرفاق,وجراحه النازفة ورائحة الدماء ربما يجلبان عليه الشر.
وان كان يريد النجاة فعليه ان يقطع هذه التلال قبل حلول الظلام , وسيكون السير في السهل الممتد الى النهر خير من هذه التلال ذات الشجيرات المرتفعة. فنهض من فوق شجرة الزعتر شادا" على جراحه وآلامه ومتثاقلا من نفسه وواصل خطواته محاولا" اجتياز التلال عبر ممرات متعرجة تجنبه الصعود الشاق لقمم تلك التلال وهو يعلم ان النهر مازال بعيدا.بعيدا.
وفي تلك البراري وعندما جاء الصوت من خلفه مفاجئا" كومضة الضوء في حلكه الظلام.لم يدع له مجالا للتفكير ,فاستدار متكئا" بجراحه على احدى الصخور ومصوبا فوهة بندقيته باحثة بين الشجيرات وبرغم خلوها من الاطلاقات.
فجاء الصوت الذي يعرفه:لا تطلق.. لا تطلق انا رفيقك.
فرد وابتسامة انشراح غالبت الوجه الذي مال للاصفرار: لن اطلق.. لن اطلق لانني ليس لدي ما اطلقه لكنها العادة والحذر.
كان الرفيق الذي ظنه قد وقع في الاسر.. ولكن كيف: استشهد الرفاق ورأيتك وانت تصاب . كنت اسندكم في هجومكم وعندما اصبت انت غطيت انسحابك, وكمنت في المكان حتى اتاكد من انسحابك. كنت اعرف انك ستسلك هذا الطريق ولذلك تبعتك .
فرد على رفيقه وهو يبدو عليه انه بدأ يفقد توازنه وانسحب بحذر عن طرف الصخرة التي يستند عليها ممتدا على الارض ومتكئا" على يده اليسرى بينما يده اليمنى تعتصر خاصرته النازفه وهو يقول: لماذا لم تتركني ليقتلني العدو واستشهد مع الرفاق. أترانا تخاذلنا وجبنا وخشينا الموت فأثرنا الانسحاب؟ لم اعرف كيف وصلت الى هنا بعد ان اصبت ونفذت ذخيرتي.
فاجابه الرفيق مهونا وهو يجلس في مواجهته: فعلنا مابوسعنا, والاعمار بيد الله .ربما يكون لنا قسمة لنعود الى الاهل من جديد...
صالح صلاح سلمي
6/5/2011
المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"