هذه بعض رحلتي .. هي رحلة أسرع من أن تشبه بالمكوكية،
وربما على أجنحة ملائكة مسخرة لنا نطير من مطار لمطار من دولة إلى دولة .. من غزة
في الثالث والعشرين من أيلول إلى غزة في الأول من تشرين الأول .
لم أكن لأصدق يوما أن أبي المفقود في العراق منذ ربع
قرن قد مات- وإن احضروا لي كما من الصور الميتة – لو لم أره بعيني وأودعه، وصلت
الليل بالنهار فور سماعي الخبر وحتى وصولي لجثمانه، كنت متيقنة أنني سأصل، لذا
قضيت ليلة ما قبل السفر في عمان، ليلة وداع لكل صغير وكبير في غزة، كنت اشعر بان
الوقت في العد التنازلي لرحلة شاقة لكنها ستوصلني لحبيب طال انتظاره .. لم يأت
فذهبت أنا ...
وصلت ورفيقي إلى مطار بغداد، وأغرورقت عيناي حينما وجدت
سفير فلسطين في استقبالي، وكم تمنيت أن يكون أبي بانتظاري، لكن جثمانه في مدينة
الطب كان ينتظرني، بعد أن رفض مواراته التراب ينتظر قبلة مني ..
كان مختلفا في حياته وأيضا في موته، فمعظمهم هناك
يدفنون على يد فاعلي خير ليظلوا على لائحة المفقودين، إلا أبي تجمدت عروقه في
ثلاجات الموتى ينتظر قدومي لتكون أقسى تجارب حياتي في أماكن لم أتوقع يوما دخولها
' مشرحة – مغسل – مدفن '. ما أقسى أن تتماسك وتنتهج القوة مسلكا خشية الانهيار،
فلا وقت ولا مكان للانهيار ولا حضن أم أو أخت هناك ..
امرأة في موقف رجولي بامتياز ..
فلسطينية غزية ليس لها إلا الثبات ..
عندما تتساقط دموعي أخفيها خلف نظارة سوداء ..
فلسطينيتي تحرم علي البكاء ..
في شوارع بغداد تسير هائما على وجهك تبحث ما بين الأزقة
عن لب الحكاية المفقود .. تجد مكانا وأشخاصا كلهم يتحدثون فيما يعلمون وما أريده
سر يرقد هناك أسير جثة كانت ولا زالت أسيرة نقمة الحدود ..
أوراق ثبوتية وصور هي أيضا تفتقد لفترة من الزمان ..
ماذا .. أين .. كيف .. ممنوعة من الصرف ما بين حرب وحرب وحرب ...
لكن أملي لم يكن يوما ضمن الممنوعات، ولن أنهي قصة
ببداية وخاتمة من دون موضوع وإلا تبرأ مني قلمي ولفتني أوراقي ..
أنا اليوم أفضل من قبل، أعرف عن حياته هناك ثلاثة عشر
عاما وأفتقد عشرة ..
أعرف أماكن وأصدقاء وأدون أرقاما ..
ومهم أنني عندما أعود سأعرف الطريق جيدا، حيث يرقد،
سأسير إلى حيث كتبت على قبره 'ولد في فلسطين'، ، سأعيش الوعي واللاوعي كما أريد ..
سأرسم بغداد على جدران منزلي كما كانت وكما أردت لها أن تكون ..
سأعود .. سأعود يا بغداد ، لقد تركت في ثراك أمانة،
أعلم أنك عليها تحافظين ..
لن أذهب اليوم كما الزيارة الأولى ..
لن أذهب للمشرحة ولا لذاك المسجد فيه مغسل الموتى ..
اليوم سأذهب إلى ' مقبرة الغزالي' ، لن أفتش ما بين
القبور ..
سأدخل البوابة .. أتجه يمينا ثم إلى الأمام طريقا طويلا
.. إلى اليسار قليلا ثم أقف .. عند رأسه سأجلس .. أحادثه.. أسامحه ..
وسويا نلعن الحدود .. نلعن الاستعمار .. نلعن الحروب
ننشد للوطن .. ننشد لفلسطين
يذكر أن المواطنة أمل الأعرج كانت ناشدت الرئيس في
رسالة، لمساعدتها بالذهاب إلى العراق لدفن جثمان والدها الذي توفي هناك، وقالت
فيها: 'أرجوك حضرة الرئيس ووفقا لحسك الوطني الإنساني أن تمنحني رؤية أبي الذي
حرمت من رؤيته حيا، أن أودعه، فلم يكتب لي بعد الوداع إلا الوداع، شاكرة لكم
إنسانيتكم'.
وأصدر الرئيس عباس، تعليماته إلى سفير فلسطين لدى
العراق دليل القسوس، بمتابعة قضية المواطنة أمل الأعرج، وبالسؤال عن أية معلومات
تتوفر حول المواطن عوض عبدالله حسن الأعرج .
ـــــ
../م.ل
المصدر :
وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية – وفا – بتصرف موقع فلسطينيو العراق
10/10/2012