اخي ...تقدم ..بسرعة..
قفزت وانتبهت... اين انت؟؟ تذكرت وركضت باتجاه الشباك امامك ...ثلاث خطوات
واصبحت امام الهم الجديد مباشرة....ولا تدري كيف ناولته الجواز ومعه دعوات كل الاجداد وتراتيل كل الجدات ان يعمي بصره ويختم الجواز بسرعة .
كانت الاجواء اعقد مما توقعت ..واصعب مما تخيلت ....والزحام شديد ..والهاربون من الجحيم بالالاف....
عندما اعاد لك الجواز بذلك الوجه المتجهم ....ابتعدت عن الشباك بسرعة ...وبدأت البحث عن الختم ...بانتظار العائلة .
الامر بدا مختلفا هناك عند البوابة الاولى ل( الشقيق) الثاني ....الزحام اشد والاجراءات ابطأ واكثر تعقيدا...مع استمرار الدعاء ...وقراءة سور بعينها من القران الكريم ....و ملايين الالتفاتات ...وتكرار غير معقول لتحذير افراد العائلة بنسيان اللهجة الفلسطينية ...مؤقتا... وعبر فتحة صغيرة من الزجاج ...اخذ الموظف الجوازات معا هذه المرة ومعها كذا مئة ليرة ...وانت تنتظر...بلا قلب ...من اين تأتي به وقد هشموه هناك ..قبل الرحيل بجيل .
جبل هائل هو خوف من نوع جديد ازالته من على كتفيك يد الموظف التي ختمت الجوازات....ومعها صنعت لك دمشق قلبا جديدا ...كان مجبولا بالقلق اللامحدود بينما كانت عينيك على بغداد ...ومن بقي فيها من الاحبة كان يمطرك كل يوم بصاعقة جديدة: اليوم قتلوا فلان ...وخطفوا فلان ....وفقد فلان ...وعثروا على جثة ....لكن القلق الجديد يتضخم واصبح واقعا جديدا ...يفرضه وجودك في دمشق..لكنك لم تنهار بعد ....
وجاءتك الاخبار ... بعد حين : انتبه!! في دمشق فاسدون...انهم واشون ..اين تذهب ؟؟؟ اي امتحان هذا ؟؟
حتى عندما تخرج من الجامع الاموي ... تخشى ان تراهم هناك... بين الازقة الدمشقية القديمة ... بأنتظارك.
ماذا فعلت ؟!! ماذا تفعل ؟؟ في دمشق اليوم القوا القبض على فلان .... يا الله.. لكنك لست وحدك ...والعائلة ؟ على الحدود ...وبعد اسابيع من السجن رموا فلان وعائلته على الحدود ... واي حدود؟؟ وارتفع الرقم ...سبعة ...ثمانية ...عشرة ... والتهمة جاهزة ... والفاسدون ايضا ..والقرار واحد : الى الحدود.
لم يعد في القوس منزع ....المخيم هناك ..على الحدود ... ولك فيه من الاحبة قد سبقوك في اتخاذ القرار...وهم الان هناك في الوليد.
دمشق منحتك قلبا مؤقتا ....ومنه اذعن العقل للقرار واستجاب . وهناك في المخيم ...اكتشفت الاهوال .
لسنا انبياء ...فزمن الانبياء قد انتهى منذ اكثر من اربعة عشر قرنا ...ولم تكن انت في جمهورية افلاطون ... المثالية ..ولن تكون ...لكنك كنت في مخيم للاجئين الفلسطينيين ... وماذا وجدت ؟ الازمات والشدائد هي المحك الحقيقي للناس ... والمخيم كان بمثابة مختبرا لاكتشاف معادن الناس وطبائعهم ...وهناك لا مجال للنفاق ... ولا مجال للتزويق ولا للمجاملة ...فالحقائق بتفاصيلها عارية امامك ... واهالي المخيم يعرفون كل شئ.
وهكذا وجدت: من الفاسدين من تاجر بالاهالي .. ... ومن الفاسدين من باع الاخرين لاجهزة الامن .. ولا ادري ماذا جنى ...ومن الفاسدين من سطى على اجزاء من حقوق الاخرين ...حتى وانت في المخيم كان ثمة من لا يرحم الاخرين فيعتدي على هذه العينية الكبيرة او الصغيرة ... او الحيثيات المالية التي تستحق او لا تستحق ...ومنهم من حاول ان يصنع لنفسه ( مجدا) ... فكان وصوليا نفعيا ...ومنهم من اصبح او حاول ان يكون ( رويبضا) ... يمثل نبضك دون ان تمنحه هذا الحق ....ومنهم من لعق الكحول عقله ... فحاول ان ينشر اثاره المدمرة بين المتناولين من الشباب في المخيم .
سنتان او ثلاث او اربع سنوات ...احترقت من عمرك هناك في .... كان كل يوم فيه ... اكتئاب سنة .... وكل ساعة انتظار للفرج فيه ... هي قلق قرن .
بالتأكيد الخيرون في المخيم اكثر ... ومنهم العديد من حاول المعالجة ... وبالتأكيد الضمائر الحية في المخيم كانت اكثر ... والاكاليل الايجابية بعناصرها كانت تضيء عتمة المخيم المدهمة في الكثير من النواحي ...لكن ...هذا جانب اخر ... وهو بالطبع كبير ومهم جدا ... ولكن ايضا كان الجانب المظلم من الحياة في المخيم قاسيا الى درجة لا تطاق ... ولا يمكن ان تنساه .
ثمة من يشكوا من اهلنا ... حتى في الغربة ... ايضا من فاسدين ... حتى في منفاك الجديد ...
ثمة من يحصي انفاس الاخرين .... وثمة من يحاول اشباع رغبته في التصيد بالماء العكر ...وثمة من ينسى ان صلة الرحم هي جزء مهم من عبادة المسلم لربه, فيقطعها ... وثمة من ينسى انه لاجئ فلسطيني ... فيتحول الى شرطي ..
كل ذلك واكثر خاصة في اماكن اللجوء التي تحوي اعدادا كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين متقاربين في مدينة واحدة .
انا لا اسمي احدا ... ولا اضع لائحة اتهام ضد احد ... ولا ادعي الكمال ... فالكمال لله وحده .... بل احاول تشخيص الاخطاء ... قد اكون صائبا في ذلك ...وقد اكون مخطئا ... ولكن المهم ان نحاول اصلاح انفسنا ... فلا معنى لأن تغض النظر عن فساد ... ووقائعه السلبية قد تؤثر عليك وعلى محيطك ...ولا معنى لوجودك ان لم تحاول على الاقل ان تكون خيرا .. فتزرع وردة بين الكثير من الاشواك امامك او تشعل شمعة في بدايات الظلام ... لترى خطوتك القادمة بوضوح... او تترك بصمة بيضاء ترشد سلوك الاخرين .
في كل مجتمعات العالم ... ثمة فاسدون.. ولكن لأننا فلسطينيون علينا ان نكون استثناء... يجب ان نكرس الحكمة فينا ... ونبرز الخير في سلوكنا ... يجب ان نعي الدرس ... ونصطف معا ....نحاول ان نبني , في الغربة مجتمعا صغيرا .... نظيفا , متماسكا , متراحما, بلا فاسدين.
أخوكم: أحمد أبو الهيجاء
لوس أنجلس
2/3/2011
المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"