كانت الحكاية في صيف 1948 في قرى أجزم وجبع وعين غزال
بمدينة حيفا التي صمدت أسطورياً أمام العصابات الصهيونية، ليشكل سكان القرى الثلاث
غالبية اللاجئين الفلسطينيين إلى العراق بالإضافة الى عشرات العائلات الأخرى من
قرى يافا ونابلس والقدس وحيفا ممن حطوا رحالهم في بغداد والبصرة والموصل، وقبلهما
الفلوجة التي أطلقت حينها حملة "أهل الدار لا ضيوف" لإيواء الفلسطينيين
الآتين إلى العراق عبر الأردن وسورية بالباصات.
قدّر عدد الواصلين الى العراق منهم بنحو خمسة آلاف
فلسطيني، غالبيتهم من النساء والأطفال، وتولت السلطات العراقية آنذاك توزيعهم على
مناطق مختلفة. وقد تكفل الجيش العراقي بالإنفاق والإشراف على إقامتهم بالعراق من
موازنته السنوية واستمر على هذه الحال حتى أواخر عام 1950. بعدها نقل ملف اللاجئين
الفلسطينيين من وزارة الدفاع إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، وقد منحت الحكومات العراقية
المتتالية حق التعليم المجاني والصحي والوظائف وجميع حقوق المواطن العراقي عدا عن
تملك العقارات أو نيل الجنسية، كما أعفوا من التجنيد الإلزامي. لمع من بين
الفلسطينيين علماء وأساتذة جامعات ومثقفون يقول عنهم وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية
في الثمانينيات محمد الشيخلي لـ"العربي الجديد": "كانوا مثل سلة
الفاكهة بين العراقيين".
استمر عدد الفلسطينيين بالارتفاع ليتضاعف إلى نحو 35
ألفاً قبيل الاحتلال الأميركي للبلاد عام 2003 إلا أنّ هذا العدد سرعان ما بدأ
بالتراجع بشكل كبير مع الاحتلال، وبدء موجة الاعتقالات من الجيش الأميركي
والمليشيات المسلحة، فضلاً عن عمليات الاغتيال التي طاولت أسماء بارزة من
الفلسطينيين بالعراق.
وقع الاعتداء الأول على الفلسطينيين بعد الاحتلال
بأسابيع قليلة إذ هاجمت قوة أميركية من المارينز، مبنى سفارة فلسطين في بغداد
وحطمت أبوابه وصادرت وثائق ومعلومات تخص السفارة، بالإضافة إلى اعتقال عدد من
موظفي السفارة من بينهم دبلوماسي. أعقب ذلك قصف القوات الأميركية المجمع السكني
للفلسطينيين في حي البلديات ببغداد، ونتج عنه مجزرة تمثلت بمقتل وإصابة ما لا يقل
عن 60 فلسطينياً وتدمير عدد كبير من المنازل.
بدأ بعدها مسلسل جديد من التنكيل بالفلسطينيين من قبل
مليشيات "بدر" و"جيش المهدي" و"عصائب أهل الحق"
وغيرها ممن نفذ عمليات اغتيال طاولت كفاءات فلسطينية تحت مزاعم الانتقام من أتباع
النظام العراقي السابق. وبعد تفجير المرقدين في مدينة سامراء عام 2006 واندلاع
الحرب الطائفية على إثره التي حصدت عشرات الآلاف من العراقيين من مختلف الطوائف
والعرقيات وجد الفلسطينيون أنفسهم في دوامة العنف الكبيرة إذ استمر الاستهداف
الطائفي لهم، من دون أن يمتلكوا أيّ وسيلة دفاع، أو مكان للفرار سوى البقاء
منتظرين الموت على يد المليشيات الموالية لإيران أو قوات الحكومة وحتى الجيش
الأميركي نفسه. وجراء تلك الاعتداءات قدّرت منظمات محلية عراقية مقتل 600 فلسطيني
وفقدان نحو 60 آخرين واعتقال عدد كبير منهم، من بينهم من خطف ليظهر في ما بعد على
قنوات فضائية تابعة للمليشيات وهو يعترف بـ"جرائم إرهابية" بعضها نفذ في
مناطق نائية بالعراق بعيدة عن مجمعات الفلسطينيين، وهي اعترافات انتزعت تحت
التعذيب.
تلك الانتهاكات والجرائم بحقهم دفعت بأعداد كبيرة من
الفلسطينيين لبدء رحلة لجوء جديدة والتوجه الى مخيمات على الحدود العراقية مثل
مخيم الرويشد وطريبيل بمئات العائلات الفلسطينية التي أقامت في الصحراء نحو عامين
ونصف بعد رفض السلطات السورية إدخالهم ورفض حكومة نوري المالكي إعادتهم إلى
العراق، قبل أن تتدخل الأمم المتحدة وتوزعهم على عدد من الدول الغربية أبرزها
البرازيل وتشيلي وإيطاليا والسويد والنرويج وبريطانيا.
منذ عام 2013، عاودت المليشيات الطائفية الهجوم على
تجمعات الفلسطينيين في بغداد وخطفت عدداً منهم وقتلتهم وأخفت جثثهم ما دعا عددا
كبيرا من الفلسطينيين إلى رحلة لجوء أخرى باتجاه تركيا وماليزيا وتايلاند
وإندونيسيا وسيرلانكا والهند. وتمارس على اللاجئين الفلسطينيين الهاربين من العراق
في دول شتى منذ سنوات أعمال تعسفية مختلفة من بينها عدم توطينهم على خلاف الجنسيات
الأخرى. وتتذرع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بأنّ تلك الدول لا
ترغب بتوطين الفلسطينيين الآتين من العراق.
ومع دخول تنظيم "داعش" إلى مدينة الموصل عام
2014 هرب الفلسطينيون مجدداً إلى مخيم "بحركة" في مدينة أربيل. وبعد
انتهاء الحرب في الموصل، انكشف دمار بيوتهم فيها بسبب القتال، ما منعهم من العودة
بسبب الخوف من المليشيات الطائفية مجدداً، وما زال كثيرون منهم في
"بحركة".
المصدر : العربي الجديد
4/9/1439
20/5/2018