موجودون .. غير موجودين
تقرير حقوقي يشرح الظروف القانونية والإنسانية لفئة فاقدي الأوراق الثبوتية
من اللاجئين الفلسطينين واللاجئين الفلسطينيين المهجرين من العراق إلى لبنان
شباط 2012
أن يكون الإنسان موجوداً بشخصه وجسده بروحه وأفكاره، أن يتمتع بالحقوق الطبيعية التي وهبها الله تعالى إياه، أن يشعر بالمعنى الإنساني لوجوده، فذلك أمر يتفق مع السياق الطبيعي لوجود الإنسان على وجه الأرض. لا يمكن الفصل بين حقوق الإنسان أو مقايضتها أو تجزئتها أو تأجيلها، ولا يمكن القبول مطلقاً أن يُعطى الانسان الحق في الطعام والشراب ثم تُصادر حريته في التعبير والعمل السياسي والمدني. وليس مقبول بتاتاً وفق قواعد ومبادئ حقوق الإنسان أن يقال "بأننا منحناك الحق في الحياة على أرضنا والعيش فيها" ثم يُحرم هذا الإنسان من حقه في المسكن اللائق والعمل اللائق والتعليم اللائق والصحة المناسبة، أو تُقيّد حريته في الحركة والتعبير...إن حقوق الإنسان كل متكامل. ولا يمكن أن تقبل أي حجة مهما كانت ما لم تستند إلى قواعد مفاهيم ومبادئ حقوق الإنسان، لا إلى الاعتبارات السياسية أو الطائفية.
الشخصية القانونية للإنسان
إن الشخصية القانونية من أساسيات حقوق الإنسان. والمقصود بالشخصية القانونية القدرة على تحمل الواجبات و التمتع بالحقوق وممارستها.
تتقرر الشخصية القانونية للإنسان بمجرد الولادة، فبمقتضاها يستطيع إكتساب الحقوق وتحمل الإلتزامات. تبدأ الشخصية القانونية للإنسان بواقعة قانونية تتمثل في تمام ولادته حياً، أما إذا ما ولد ميتا فلا تثبت له الشخصية القانونية. ويقصد بالميلاد خروج المولود وانفصاله عن أمه انفصالا تامًا. وتتحقق حياة الجنين وقت الولادة بعلامات مميزة كالبكاء والصراخ، وللقاضي التحقق من ذلك بكافة طرق الإثبات.
تثبت واقعة الميلاد بالقيد في السجلات المعدة لذلك. وإذا لم يوجد هذا الدليل أو تبين عدم صحة ما أدرج بالسجلات، يجوز الإثبات بأية طريقة حسب الإجراءات التي ينص عليها قانون الحالة المدنية.
ولا يمكن الحديث عن واجبات ما لم تتوفر الحقوق، لإن الحقوق والواجبات مرتبطتان ارتباطاً عضوياً ببعضهما البعض.
نصت المادة السادسة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948 على ما يلي: لكل إنسان أينما وجد الحق في أن يُعترف بشخصيته القانونية.
في لبنان فلسطينيون موجودون وغير موجودين
يوجد في لبنان فئة من اللاجئين الفلسطينيين لا تتمتع بالشخصية القانونية، وتُعرف هذه الفئة بفئة "فاقدو الأوراق الثبوتية"، ويعرفها آخرون بمسلوبي الهوية. أطلق مصطلح "فاقدوا الأوراق الثبوتية" عموماً على مجموعة من اللاجئين الفلسطينيين ممن لجأوا إلى لبنان بعد أحداث "أيلول الأسود" بين قوات منظمة التحرير الفلسطينية والجيش الأردني عام 1970. وقد برزت حالة هؤلاء بشكل جلي بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية إثر وثيقة الوفاق الوطني المعروفة باتفاق الطائف سنة 1989، هذه الوثيقة التي أنهت الحرب الأهلية (1975-1989).
ليس ثمة إحصاء دقيق لعدد هؤلاء اللاجئين، ولكن تقديرات مختلفة ترجح أن يترواح عددهم ما بين 3500 و5000 إنسان فلسطيني.
لا تمتلك هذه الفئة أوراق رسمية مثل باقي اللاجئين الفلسطينيين، أي أوراق صادرة عن مديرية الشؤون السياسية واللاجئين (الهويات، إخراجات القيد، وثيقة الولادة...) أو ومديرية الأمن العام اللبناني (وثيقة السفر الخاصة باللاجئين الفلسطينيين).
مواصفات هذه الفئة :
- ما يحمله جزء يسير من هؤلاء هو ورقة صادرة عن الأمن العام اللبناني (باعتبار أنهم أجانب) لا يستفيد منها أصحابها إلا بالتنقل فقط (وقد تمكنهم من دخول الجامعات، دون الحصول على شهادات رسمية مصدقة من وزارة التربية والتعليم العالي، كما تمكنهم من عقد القران في المحاكم الشرعية لكن دون تسجيلها في دائرة شؤون اللاجئين) وهو تنقّل محفوف بمخاطر الاعتقال. الورقة المؤقتة هذه يجد حملتها صعوبة بالغة في تجديدها.
- عدد غير معروف من هذه الفئة لم تحصل على الورقة الصادرة عن الأمن العام، وهي لا تغادر مكان سكنها سواء كان في المخيم أو غيره، منذ سنين طويلة.
- لم تجر أية محاولة جدية واضحة وحاسمة لإصدار أوراق رسمية لهم، وكل المحاولات السابقة كانت جزئية سطحية ولم تعالج جوهر المشكلة.
- حاولت بعض منظمات المجتمع المدني الفلسطينية ومن بينها المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد) معالجة هذه القضية، ولكن هذه المحاولات كانت عاجزة عن الوصول إلى نتيجة شاملة، لإن قرار معالجتها هو قرار سياسي وهو غير متوفر لغاية الآن.
- تعاني فئة قاقدي الأوراق الثبوتية من ظروف إنسانية بالغة السوء. فالشخصية القانونية غير موجودة، الأمر الذي ينعكس على عدة أمور منها :
- صعوبة بالغة في التنقل، حيث يتعرّض حملة الوثائق للاعتقال عند نقاط التفتيش. وعندها تبدأ رحلة معاناة لدى ذويهم الذين لا يحملون هم أوراق ثبوتية أيضا.
- يتعرض الموقوفون لظروف نفسية كبيرة على اعتبار أنهم أجانب، بحيث يُحوّلون من سجن رومية (مثلاً) إلى سجن الأمن العام بانتظار الترحيل إلى مكان مجهول! وغالبا ما تدخّلت المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد) في حالات عديدة من خلال إرسال رسائل مناشدة واسترحام لمديرية الأمن العام اللبناني.
- صعوبة بالغة في التزاوج، بسبب عدم القدرة على تدوين الزواج أو تسجيل الأولاد، وهو ما يجعل معدلات العنوسة في أوساط هذه الفئة مرتفعة للغاية. ويتعارض ذلك بشكل صارخ مع حقوق المرأة المنصوص عليها في اتقافيات عديدة خاصة بالمرأة، لا سيما اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة لعام 1979.
- صعوبة بالغة في الاستشفاء خاصة أنهم لا يحملون أي ورقة تخولهم الاستفادة منها (الأونروا بشكل خاص تقدم لهم العلاج في عياداتها فقط، وهو علاج يقتصر على المعاينة الأولية). وهذا يتعارض مع العهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية وخاصة مع المادة (12).
- صعوبة بالغة في التعلّم لعدم قبول أية مدرسة خاصة أو رسمية تسجيل الأولاد إلا بموجب أوراق ثبوتية، وإذا ما تعلم أطفال هذه الفئة في مدارس الأونروا فإنهم يتعلمون بشكل غير رسمي. وهذا يتعارض مع اتفاقية حقوق الطفل الدولية لعام 1989.
- صعوبة بالغة في العمل، بسبب عدم القدرة على التنقل، أو الخوف من الاعتقال، مما يجعل معدلات البطالة في أوساط هذه الفئة مرتفعة جدا، الأمر الذي يترك انعكاسات اجتماعية هائلة.
من المسؤول عن معاناة هؤلاء؟ .
تتوزع المسؤوليات على عدة جهات وهي :
1. الدولة اللبنانية هي المسؤول الأول عنهم، كون هؤلاء يعيشون على أرضها، ولا بد أن ترتّب أو تنظم أوضاعهم القانونية، وأن تتحمل المسؤولية تجاه كل المقيمين على أراضيها. ولم تكن الدولة اللبنانية في يوم من الأيام جادة في هذا الخصوص. ولم تعلن أنها بصدد تسوية أوضاعهم القانونية، ولا حتى إحصائهم. وتملك الدولة اللبنانية الأدوات السياسية والقانونية والأمنية والإدارية لتسوية أوضاعهم. ومن الممكن أن يتم ذلك خلال أشهر معدودة لو توفرت الإرادة السياسية لدى الدولة. وتسوية أوضاهم القانونية مصلحة لبنانية عامة.
2. الحكومة الأردنية مسؤولة أيضا، لأن الكثير من هؤلاء يحملون جوازات سفر أردنية انتهت صلاحياتها ولم تجددها لهم السلطات الأردنية، كما أن الكثير من هؤلاء لهم أقارب في الضفة الغربية أو الأردن. ومع مرور سنين طويلة على محنة هؤلاء، تدير الحكومة الأردنية الظهر لكل الأصوات المنادية بمعالجة ملفهم، وتتنصل من تحمّل أية مسؤولية تجاههم.
3. حكومات دول عربية مسؤولة أيضاً عن محنة هؤلاء، مثل حكومة مصر واليمن والعراق كون بعض هؤلاء يحملون جوازات سفر هذه الدول ولم تسمح السلطات هناك بتجديدها مرة ثانية.
4. منظمة التحرير الفلسطينية هي مسؤولة أيضا. فمعاناة هذه الفئة ناتج أساساً عن سياسات خاطئة انتهجتها منظمة التحرير الفلسطينية في الأردن. وهؤلاء هم فلسطينيون، ومن حيث المبدأ فإن منظمة التحرير الفلسطينية، وهي الممثل الرسمي للشعب الفلسطيني في نظر الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة، مسؤولة عن كل أبناء الشعب الفلسطيني. تُصدر منظمة التحرير الفلسطيية أوراق يطلبها الأمن العام اللبناني لمساعدة حالات فردية من هذه الفئة، وهو حل جزئي ومحدود للغاية. المطلوب أن تكون قيادة منظمة التحرير الفلسطينية أكثر جدية لمعالجة هذا الملف، والمطلوب عندما تزور قيادات فلسطينية لبنان وتلتقي مع مسؤولين لبنانيين أن يتم طرح هذا الملف كأولوية. والمطلوب أن تُصدر منظمة التحرير الفلسطينية دليل يشرح العدد الحقيقي والدقيق لهؤلاء (إن أمكن)، وتشرح أماكن توزعهم وظروفهم الإقتصادية والإجتماعية والنفسية... ولا بد أن يتحدث السيد محمود عباس مباشرة مع الملك الأردني والدول الأخرى المسؤولة للمساعدة بمعالجة أوضاع هؤلاء.
5. الأمم المتحدة هي مسؤولة أيضاً، من خلال وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) أو من خلال مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR.
أ. أما الأونروا فعليها أن تترك الحجج القائلة بأن هؤلاء غير مسجلين في سجلات الأونروا وبالتالي لا يحصلون على الخدمات. لا بد من تسجيلهم في سجلات الأونروا وإدراجهم ضمن مجموع اللاجئين بحيث يستفيدون استفادة كاملة من كل الخدمات التعليمية والصحية والمنح الجامعية والشؤون الإجتماعية والإعمار وغيرها. إن مساعدة هؤلاء لا تشكّل أزمة مالية لموازنة الأونروا. فهم موجودون في المخيمات وتتقاطع معاناتهم مع معاناة أخوانهم من فئة المسجلين (R) أو أو فئة غير المسجلين(NR).
إن المحاولات الجزئية التي تقوم بها الأونروا (لمساعدة هذه الحالات جزئيا) على أهميتها ليست كافية.
لا بد من اتخاذ قرار عالي المستوى لإدراج هؤلاء ضمن سجلات الأونروا على الأقل، وأن تعطيهم إفادة بأنهم لاجئون. تتضمن الإفادة المعلومات الأساسية عنهم ومكان سكنهم بالتنسيق مع سفارة منظمة التحرير الفلسطيينة في بيروت.
ب. أما مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فعليها أن تتحمل مسؤولياتها تجاههم. فهم إن كانوا لا يحملون بطاقة تسجيل صادرة عن الأونروا (كرت الإعاشة) وإن كانت الأونروا غير مسؤولة عنهم بموجب التفويض الممنوح لها، أو أنهم ممنوعون من الدخول إلى الأردن للأسباب الواردة أعلاه، فهم إذن لاجئون يتمتعون بصفة لاجئ. على UNHCR أن تتحمل المسؤولية القانونية تجاههم، فتُصدر لهم بطاقات لجوء وتوفر لهم الحماية القانونية وتلزم الحكومة اللبنانية بالتعاطي معهم وفق هذه الصفة القانونية ووفق القواعد الدولية المعمول بها.
فلسطينيو العراق في لبنان .. معاناة من عيار ثقيل
مع حرب الخليج الثانية في آب 1990، ومع احتلال الولايات المتحدة وبريطانيا العراق في عام 2003، ازدادت معاناة اللاجئين الفلسطينيين هناك بين قتل وتشريد في الصحاري أو تهجير في منافي الأرض، والتقارير الحقوقية والإعلامية كثيرة في هذا المجال. لجأ عدد من اللاجئين الفلسطينيين في العراق إلى لبنان. ومع لجوئهم بدأت معهم رحلة قاسية ومؤلمة، فهم ابتداء لا يحلمون أي شخصية قانونية، وتشابهت حالتهم مع حالة فئة "فاقدو الأوراق الثبوتية"، كما أن الحكومة العراقية (والتي من المفترض أن تكون مسؤولة عن حمايتهم وتأمين الشخصية القانونية لهم من خلال إصدار الأوراق الرسمية لهم وإعطاءهم جوازات سفر وغير ذلك) تخلت عنهم. كما أن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أيضا نفضت يدها منهم، والأونروا من جهتها بالكاد تعالج قضية فئة فاقدي الأوراق الثبوتية.
مواصفات معاناة هذه الفئة :
أ. هم من فئة "فاقدو الأوراق الثبوتية" مع كل ما تتحمله هذه الفئة من معاناة سبق ذكرها.
ب. لم ينشر الإعلام عن واقهم وظروفهم، وقضيتهم. لا تزال قضيتهم غير معروفة للرأي العام الفلسطيني أولاً والرأي العام اللبناني ثانياً والدولي ثالثاً.
ت. ليس ثمة إحصاء دقيق عن عدد هؤلاء أو أماكن وجودهم، ومع كل حالة تعرفها (شاهد) يتبين أن حالات أخرى تحتاج إلى متابعة ورعاية.
ث. تخلت عنهم الحكومة العراقية عدة مرات، فهي لم تحمهم في العراق من آلة القتل الطائفي البغيض، وهي لم تعترف بهم عندما شردوا هنا وهناك.
ج. منظمة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR تخلّت عن مسؤوليتها القانونية تجاههم على اعتبار أنهم لا يزالون تحت مسؤولية الحكومة العراقية والتي بدورها تخلت عنهم.
ح. وضعهم القانوني معقّد لإن الحكومة العراقية لم تقل أنها غير مسؤولة عنهم بشكل رسمي، ومنظمة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تطلب منهم دائماً أن يأتوا بورقة رسمية تفيد بأن الحكومة العراقية تخلت عنهم. وبين هذا وذاك يبقى هؤلاء من دون أي سند قانوني لا عراقي ولا دولي ولا لبناني.. فهم موجودون وغير موجودين.
نماذج إنسانية
لخصوصية هذه العائلات ولضمان نجاح متابعة أوضاعها مع الجهات الرسمية المعنية اللبنانية الجارية، نذكر بالإشارة حالتين :
- فلسطيني عراقي تجاوز عمره الستون سنة يعاني من أمراض كثيرة، متزوج من فلسطينية مسجّلة تعيش في مخيم عين الحلوة. له عدة أبناء وبنات. عملية التنقل له ولأولاده محفوفة بالمخاطر. تم اعتقال أبنائه عدة مرات، تعاني العائلة من ظروف اقتصادية سيئة للغاية بسبب صعوبة العمل بالنسبة للعائلة بأكملها. تقدم عدة شباب لخطبة بناته، ولكن بسبب غياب الشخصية القانونية كانت النتيجة سلبية. الآن يحاول هذا الرجل الستيني محاولات مستميتة للحصول على أي صفة قانونية سواء من الحكومة اللبنانية، أو الأونروا او الحكومة العراقية أو المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين الفلسطينيين. ولا يستطيع هذا الرجل عندما يعرض أمامك قضيته إلا أن تنهمر دموعة بغزارة، فهو رجل طاعن في السن ومريض، يخشى على أبنائه وبناته من مستقبل مجهول.
- فلسطيني عراقي في الأربيعات من عمره يعيش في مخيم مر الياس، لديه عدد من الأطفال، يحاول جاهداً تثبيت وضعهم القانوني سواء لدى الحكومة اللبنانية أو العراقية أو الأمم المتحدة. المحاولات لغاية الآن لم تنجح. ثمة محاولة جادة مع الأونروا تجري، وثمة بوارق أمل يمكن أن تنتج حل جزئي له ولعائلته خصوصا الأطفال.
- كل العائلات التي اطلعنا على وضعها القانوني تطالب بالهجرة عند أي فرصة ممكنة، لإنها تعتبر نفسها موجودة وغير موجودة.
بيروت في 20/2/2012
المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد)
المصدر : موقع المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد)