فلسطينيو العراق.. كيف هُجِّروا من قراهم المغتصبة في حيفا؟ كيف وصلوا إلى العراق؟ وأين أقاموا؟ وما هي ظروفهم وأحوالهم؟
حلقتنا لهذا العدد ستتمحور حول الإجابة عن هذه الأسئلة عبر مرحلة تاريخية ومصيرية في حياة الشعب الفلسطيني منذ عام 1948. وستكشف حلقتنا حقائق لم تُنشر من قبل مع أحد شهود نكبة 48. إنه الحاج مصطفى الجياب من قرية إجزم، التقينا به في دمشق خلال زيارته لأقاربه في سورية، قادماً من نيوزيلندا التي هاجر إليها مرغماً بعد الحرب الأمريكية على العراق.
حدثنا الحاج مصطفى عن ذكريات «أيام البلاد»، ليستفيض في الحديث عن معاركهم مع العصابات الصهيونية واستبسال المقاومة في الدفاع عن الأرض والعرض، ثم نقلهم إلى العراق والظروف التي دارت بها تلك الوقائع.
من الذاكرة
يقول الحاج مصطفى الجياب من مواليد 1929 في قرية إجزم قضاء حيفا المحتلة عام 1948: «بعد عام 47 بدأ اليهود يأتون إلى فلسطين من شتات الأرض حيث بنيت لهم معسكرات فوق أرضنا الفلسطينية. وكان العمال الفلسطينيون يعملون في بناء بيوت لليهود، وهم لا يعرفون لمن هذه البيوت، كانوا يدّعون أنهم سياح».
منذ عام 1947 بدأ اليهود القادمون إلى فلسطين بالتدرب على السلاح الذي قدمه لهم آنذاك الاحتلال البريطاني، كما قدم لهم أصنافاً شتى من الدعم السياسي والعسكري في مواجهة أصحاب الأرض، حيث كان الجيش البريطاني يخوض المعارك ويرتكب المجازر إلى جانب العصابات الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني.
«طيرة حيفا» التي كان الحاج مصطفى الجياب أحد سكانها. يروي تفاصيل الملحمة البطولية في الدفاع عنها الذي تولاّه 400 مقاوم فلسطيني يحملون بنادق خفيفة. بدأت المواجهات وامتدّ القتال نحو شهرين دفاعاً عن قرى حيفا، التي أخذت تسقط الواحدة تلو الأخرى والمجاهدون ينتقلون من قرية إلى أخرى.
الاحتلال البريطاني كان الداعم الأساسي للمغتصبين، حيث كان يقصف القرى ويزود الصهاينة العتاد والسلاح الثقيل.
خرج المجاهدون من الطيرة بعد احتلالها، ومنهم الحاج مصطفى الجيّاب، إلى قرية إجزم حيث استبسلوا في الدفاع عن أرضهم لأشهر. يقول الحاج مصطفى: «عندما سقطت الطيرة انسحب المجاهدون والأهالي إلى إجزم ونقلنا السلاح واستمر القتال العنيف، وكان معي الشهيد حسن الجياب وهو من مجاهدي ثورة القسام عام 1936. كنا نتنقل بين القرى للدفاع عنها ونلحق الهزائم باليهود».
كانت الذخيرة تُهرّب لهم على الجمال من الجيش العراقي الموجود في مدينة جنين التي طُرد اليهود منها. وهذا كان سبباً في رفع معنوياتهم واستبسالهم أمام اليهود عندما علموا بأنّ عمر علي قائد الجيش العراقي سيدخل إلى فلسطين، وفعلاً دخل جنين وبعد معركة ضارية مع اليهود استطاعوا تحريرها.
لكن فرحتهم لم تكتمل، إذ انسحب الجيش العراقي من جنين. ثم قُصِفت قرية عتليت، واعتقد الفلسطينيون أن الجيش العراقي يقصف مواقع لليهود، لكنهم تفاجأوا بأن القصف كان من اليهود لقرية عين غزال قضاء حيفا. ارتقى في هذه المجزرة الصهيونية نحو 30 شهيداً من أهل القرية ثم قصفت إجزم.
بدأ الأهالي في قرى حيفا، مثل جميع القرى الفلسطينية، يخشون على أرواحهم لما سمعوه وشاهدوه من مجازر في القرى المجاورة، بالإضافة إلى الشائعات التي سوّقت لها هذه العصابات الإجرامية من طريق عملاء لنشر الخوف والهلع في نفوس الأهالي أصحاب الأرض.
حدثنا الحاج مصطفى الجياب عن السلاح الفاسد الذي كان يقدم لهم من مصر، مقابل الدعم البريطاني لليهود بالذخيرة والسلاح الثقيل، حيث استخدمت الطائرات الحربية والمدفعية في قصف القرى الفلسطينية.
التغريبة الأولى
استمر القصف والعدوان والمجازر. انسحب أهالي إجزم وجبع وعين غزال إلى جنين تحت نار القصف والمواجهات. لم يكن انسحابهم بلا ثمن، لقد كانوا يشتبكون مع العصابات خلال توجههم إلى جنين.
«خرجنا من دون أن نغلق الأبواب، وكنا مقتنعين بالعودة خلال أسابيع»، هذا ما جال في تفكير الحاج مصطفى وعائلته والجميع، فهم لم يعوا وقتها المؤامرات التي يحوكها لهم الحلفاء قبل الأعداء.
في جنين التقى الوصي على العراق والملكة عالية بالأهالي ليرحبا بهم زواراً على العراق لمدة 15 يوماً. صعد الأهالي بعربات نقل للجيش العراقي، فقط كبار السن والنساء والأطفال، أما الشباب فقد منعوا من ذلك ومنهم الشاب وقتها مصطفى الجياب بذريعة أن الشباب سيبقون من أجل مقاومة اليهود بدعم من الجيش العراقي.
كان الشبانُ يتنقلون بين مدن الضفة الغربية، وينتظرون الأوامر من الجيش العراقي من أجل القتال وتحرير فلسطين. مضت الأشهر من دون أوامر، وكما يقول العراقيون «ماكو أوامر». والشبان يسألون متى سيلتحقون بعائلاتهم في العراق. «أحد الضباط العراقيين أخبرنا بأنهم ضحكوا علينا ولا فائدة من الانتظار، ونصحنا باللحاق بعائلاتنا إلى العراق، وأن السلاح الذي بحوزتنا سيأخذه الجيش الأردني».
شعور الخيانة والطعن في الظهر كان السمة الغالبة على مشاعر هؤلاء الشبان الذين ذهبوا إلى نابلس ليبيعوا سلاحهم. الحاج الجياب باع بندقيته ومسدسه بخمسين ديناراً ليتمكن من دفع نفقات الوصول إلى العراق.
تمكن الحاج من دخول الأردن مع مجموعة من الشبان ومكثوا فيه 15 يوماً، حتى اعتقلهم حرس الحدود الأردني بدعوى أنهم لا يحملون تصريح دخول، إلا أن الضابط الأردني سمح لهم بمغادرة الأردن باتجاه العراق، فدخلوا العراق وصولاً إلى بغداد. لكنه اعتقل وعلم أن عائلته تقيم في أحد الملاجئ. فاتصل بها وحضر والده للتعرف إليه وأطلق سراحه.
يصف الحاج مصطفى الملاجئ التي عاشوا فيها فور وصولهم العراق بالقبور، إذ كانت صغيرة والغرفة الواحدة تنام فيها أكثر من عائلة. استمر ذلك حتى نقلهم إلى معسكر في مدينة البصرة يعود للجيش البريطاني بقوا فيه ثلاث سنوات.
بعدها سمح لمجموعة من اللاجئين بالعودة إلى العاصمة بغداد، حيث قدمت لهم منازل تعود ليهود في منطقة الشورجي وأبو سيفين والفضل. هذه المنازل تركها اليهود ليذهبوا إلى فلسطين، وكأنها أشبه بمقايضة.
جاهد الفلسطينيون لتحسين أوضاعهم والخروج من الملاجئ، فكانت تتحسن مع الحكومات العراقية. في السبعينيات أقيم تجمع البلديات في عهد الرئيس العراقي محمد حسن البكر. إلا أن الفلسطينيين في العراق كانوا غير مشمولين بالمناطق التي تشرف عليها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين الأونروا، وذلك باتفاق بين الحكومة العراقية والأونروا ينصّ على أن العراق يتحمل مسؤولية تقديم المساعدة للفلسطينيين على أراضيه مقابل عدم دفعه ما يترتب عليه للوكالة.
استطاع الفلسطينيون الاندماج في المجتمع العراقي وتقوية العلاقات معه بالزواج والعمل والدراسة. وعاشوا في عدة تجمعات سكنية أشهرها مجمّع البلديات، لتطول فترة الضيافة هذه من 15 يوماً إلى عشرات السنوات.
التغريبة الثانية
التغريبة الثانية هذه المرة خطّتها دبابات وجحافل الإدارة الأمريكية المنحازة للكيان الصهيوني الغاصب. فكان الاحتلال الأمريكي للعراق الذي قلب المعادلة من أمن وسلام إلى حرب ودمار، من محبة وإخاء إلى طائفية وبغضاء.
الفلسطينيون كان لهم النصيب الأكبر مما تعرضت له الجاليات العربية في العراق. الحاج مصطفى الجياب وعائلته أحد النماذج النادرة في قاموس الشتات الجديد لفلسطينيي العراق التي تجمع أفرادها في بلد واحد «نخشى أن نضربهم عين ويتفرقوا عن بعض». يقيم الحاج مع أولاده في نيوزيلندا بعد رحلة شاقة من الهجرة والترحال عبر بحار وأراض ومسافات شاسعة أبعدتهم قسراً، مرة عن فلسطين، وأخرى عن العراق.
«أحنّ إلى فلسطين وأريد العودة إليها. ورغبتي بالعودة إلى بغداد للقاء أهلي وأحبابي» هذه آخر كلمات قالها الحاج جياب في حديث الألم والأمل؛ ألم فراق وطن وأمل بالعودة إليه.
ماهر حجازي / دمشق – مجلة العودة