ما من أحدٍ يشاركني الإفطار بكِ يا أمريكا - الفصل الثاني والأخير بعنوان "اللــهم أرحمنا وأرحــم أيــــام زمـــــان" - بقلم / جمـــال أبــو النســــب
بعدما فَرَغت زوجتي من جميع أعمال المطبخ .. وَهيئت وجبة الطعام كما طلبتها منها .. خَرَجتُ من شَقتي قبل الفُطور بقليل .. وأنا حاملاً صِينية الطعام .. وإحساس بالفرح يكاد يكتسحني .. والسعادة بَلَغت ذُراها وهي تغمرني .. لذا رُحتُ أطرق أبواب جيراننا واحداً تلو الآخر .. بحماسة ونشاط ابن العشرين .. بابتسامته العَرِيضة التي تَفتَرش شَفتيه .. وكأنهُ يَطرُق باب أهل محبوبته .. طالباً ودَهُم وَرِضَاهُم .. قَبلَ موافقتهم لِخُطبتِها .. ومُمسِك بين يديه بباقة وَردٍ .. طامحاً بتقديمها مَهراً .. لِمَن عَشَقَت عيناه وهوى قَلبه .. ولكن سُرعان ما انطَفأت هذه الحَماسة .. وتَبدد ذلك النشاط .. وعُدت رَجُلاً تَجاوز الخمسين من عُمِره ...
لأن الجيران هنا .. غير جيران أيام زمان .. فهذا لم يعرني بالاً .. حين عرضت عليه أن يقبل الطعام مني .. ولشدة تأنيه في فتح بابه .. ومن كثرة أدبه الجم .. واكتفاءه بزم فمه الكبير ببرود .. ليخفي عني ابتسامة التهكم .. وأتبعها بقول كلمة لا أريد .. دون أن يتبعها بكلمة شكراً .. حرصاً منه على اللؤلؤ الذي في فمه أن يتساقط .. أحسست بانجماد في أطرافي .. وبالكاد استطعت زحزحة أقدامي من أمام باب شقته ...
وذاك لم يكترث بي بتاتاً .. بل نظر إلي وكأني .. جئت أستجدي منه شيئاً .. فرمقني بنظرة المرتاب .. من شيءٍ لم يتوقع رؤيته .. وكأني هبطت عليه .. من قعر كوكب آخر .. فأغلق الباب بوجهي .. بهدوء المفزوع دون حراك .. من دون أن ينطق بكلمة واحدة .. لكنه لم يبخل عليً برسم ابتسامة بلهاء على شفتيه الغليظتين ...
وأحسنهم جيرة نظر ألي .. مثل من ملً من جاراً له لكثرة طلباته .. والتي لها أول وليس لها آخِر .. وهو ليس موعزٍ أو ذا حاجة.. ويريد أن يصفع الباب بوجهه .. ولكن حيائه دوماً يمنعه من فعلها .. فكلف نفسه وجاهد ذاته .. وتكلف عناء الرد بكلمة شكراً .. ويا ليته قالها من خلف بابه المغلق .. خيراً من أني رأيته وهو يقولها .. من خلف أنفه المتربع .. على وجهه بنمشه الأسود .. قال شكراً لأنهم ميسورين .. وغير محتاجين .. ونظراته ضلت تلاحقني .. وكأنها تقول لي بالله عليك .. ارحمنا منك ومن طلباتك .. ولا تطرق بابنا هذا ثانية ً ...
وأما أقربهم فهماً لي ومعرفةً للغة العربية .. وَرُغمَ أَنه يُعَدُ خَلِيطاً تتوفر فيه .. جميع ما يخطر ببالك .. من أشكال وملامح لأجناس البشر.. لأن شكله وبشرته وملامحه .. لم أرى مثلها من قبل .. أنه (( أمريكي على أوربي .. وفيتنامي على مكسيكي .. وأفريقي على هندي .. ووو على عربي )) .. فهو محير حقاً .. لأنه فعلاً خير من ينطبق عليه المثل القائل .. من كل قطر أغنية .. ردني بنصيحة بكل لغات العالم .. ولكن الذي فهمته من أشارات يده .. وحركات عينيه قبل كلامه .. هو أن الأمريكان لا يقبلون أي طعام .. من أي شخص غريب .. أو من أيٍ جارٍ .. وان كان قريب .. فذلك غير موجود في قواميسهم .. ولم ترد أي أشارة له بثقافتهم .. وهذا تصرف غير مقبول .. لأنه غير معمول به فيما بينهم أساساً .. ونصحني أن لا أكرر هذا ثانيةً.. لأنه قد يترك لدى البعض منهم أثراً سيئاً .. ويتطور فيصبح الأكل مدعاة للشك قبل صاحبه ...
اقترب أذان صلاة المغرب .. ولم يتبقى سوى بضع دقائق على موعد الإفطار .. وأنا مازلت أدور وأصعد وأنزل .. سلالم المجمع الذي أقطن فيه .. وقلبي على علته .. كان مع كل خفقة .. يرجو من الله أن ييسر لي .. من يقبل مشاركتي إفطاري.. فيتكرم عليَ ويأخذ صينيتي الصغيرة .. لأني ما زلت طامعاً بالأجر المضاعف .. ولا أُنكر أيضاً بأنه مازال هناك حباً في ذاتي .. لأحياء هذه العادة والعرف والتقليد .. ولن يثنيني عن فعله شيئاً .. وسأفعلها مادام هناك بشر .. وان كنت على ظهر القمر .. وليس في أمريكا وحسب .. وسأرسل شيئاً وان كان يسيراً .. من أطباق طعام إفطاري .. في هذا الشهر الكريم .. إلى أيٍ كان من جيراني .. لأن هذا ما تعلمناه منذ الصغر .. حين كانوا أهلنا يأمرونا لندور .. على بيوت الجيران .. بصحون الطعام في شهر رمضان ...
ولكن الإعياء والإرهاق والتعب الشديد .. قد نالا مني الشيء الكثير .. لدرجة لم أعد أقوى على الوقوف على قدميَ .. فأجبرت للجلوس على النجيد الأخضر قبالة شقتي .. في وسط المجمع السكني الذي نقطن فيه .. جلست وأنا مازلت ممسك بصينية الطعام.. وعيوني تتفحص ما فيها بعناية .. لعلي أجد سبباً لرفض جيراني لي ولها سوياً ...
وأنا على حالتي هذه .. لم أجد ترويحاً عن نفسي .. ولم أملك أي عزاءً لروحي .. سوى استذكاري لأهلي وجيراني .. كيف كانوا طيلة أيام شهر رمضان .. يدورون بصحونهم المليئة بالطعام على الجيران .. وقلوبهم العامرة بالإيمان .. ووجوههم الشاحبة من إعياء الصيام .. والكل يرحب بهم وبصحونهم .. وعندما كنا نجلس لتناول الإفطار .. نجد على المائدة عشرات الصحون العامرة بحب الناس .. قبل طعامهم على بساطته .. حتى بتنا نعرف مصدره بمجرد النظر إليه .. ومن غير سؤال .. وذلك من شكله أو طعمه أو رائحته .. هذا من بيت أم رامي صيدم .. وذاك من بيت أم حسام الغزاوي .. والذي بيد أصغر أبنائي من بيت الأرملة أم خالد زوجة الشهيد بإذن الله ذيب أبو سرحان ...
والذي لم تصل له يدي .. لأن أيادي أولادي كلهم سبقتني إليه .. فهو معد بعناية وبخبرة سبعون عاماً .. انه خارج من تحت يَدِين .. سيدتي وتاج رأسي .. وفيه أنفاس معشوقتي ومحبوبتي .. وأكاد ألمس على حواف الماعون .. تعرق يد من جنتي تحت رجليها .. واشمم ريح عبق أنفاسها الزكية تُبهِرهُ .. انه من يَدِين .. من أدعو الله أنَ يرحمها .. أنه من قلب أمي قبل مطبخها .. وكنت عندما أطلب من أولادي .. أن يتركوا لي شيئاً منه .. يجيبوني هم وأمهم بكلمة واحدة .. لا تتعجل سنبقي لك منه شيئاً .. وفي كل مرة يمسح الماعون بأيديهم .. ولم يعد هناك حاجه حتى لغسله ...
فأنا كل ما مر بي رمضان أنسى كل شيء .. وأتذكر لليوم قولكِ لي ناصحةً (( بنيَ ضع يدك على فمك أذا أردت أن لا تتكلم )) وأنا اليوم أقولها لكِ أمي (( لما يا أمي .. كلما مررتي بخاطري .. أضع كلتا يدي على قلبي .. لكنه يبقى يتألم )) .. أمي هل أبوح لكِ بسرٍ لم أكن أنوي البوح فيه من قبل (( أمي حين لفك الكفن .. تراكم بعضي فوق بعضي .. ليخرس كلي وقلبي من تكلم .. فمعذرةً أمي أن أنا للآن لم أتعلم .. الصمت بحضرتك ويبقيً قلبي يتكلم )) فسقطت دموعي رغم عني على الطعام .. الذي ما زال بالصينية التي أمسك بها بقوة .. وكأنني هي الأخرى أخشى عليها من السقوط .. فأطرقت برأسي إلى الأرض .. ولسان حالي يردد (( اللهم أرحمنا وأرحم أيام زمان )) ...
وحين هممت بالوقوف للعودة إلى شقتي .. لمشاركة زوجتي طعام الإفطار .. والألم يعتصرني مما بدر من جيراني .. وان كان ردهم عليً بقصد أو بدونه .. فَحُرِمت من نيٍل الأجر والثواب .. كما أن الحزن والتعب أتيا على ما تبقى من طاقتي .. ولم يتبقى سوى دقائق على نهاية الخمسة عشر ساعة لصيامي .. لذا أصبت بدوار بسيط .. لتتعثر قدمي فتهوى الصينية على الأرض .. فانسكب قرابة ثلثي ما فيها على العشب .. فانتابتني عاصفة من الأحزان .. وإحساس بأني هرمت فجأةً .. وكاد أن يغمى عليَ ...
بعدما كان الشعور بالمرارة يغشاني .. والإحساس بعزم الروح مغادرة الجسد .. ولكن خلال ثواني ردت روحي إليه .. وجرى الدم في عروقي ثانية .. الذي حسبته حين غادر قلبي .. ضل طريق العودة إليه .. لأن السماء صارت تمطر عليَ بضيوف من عند الرحمن .. بلمح البصر إذ بعشرات الطيور إن لم تكن مئات تهبط عليَ من سقف السماء .. لتحط الواحدة تلو الأخرى على كتفي لتحيَيني .. بعدها تترجل من على كتفي .. لتأكل بشهية من الطعام المنسكب على الأرض .. وكأنها لم يسبق لها وأن تناولت ( أكلة منسف فلسطينية ) بك يا أمريكا ...
ودون شعور مني حين سمعت صوت أذان المغرب .. مددت يدي إلى الطعام المتبقي بالصينية الصغيرة .. لأضع لقمة منه في فمي .. حامداً الله على نعمه .. ورحت أردد بكل عزم مع ( ضيوف أو طيور الرحمن ) من كثرة سعادتي لمشاركتهم لي إفطاري .. ربنا لك صمنا ,, وعلى رزقك أفطرنا ..فتقبل صومنا يا ربُ منا .. ذهب الضمأ .. وابتلت العروق .. وثبت الأجر إن شاء ألله ...
هنيئاً لي ولكم شهرنا هذا .. ومبروك علينا وعليكم هذا الشهر الفضيل .. شهر البركة والرحمة والمغفرة والعتق من النيران .. وكل عام وأنتم بخير .. وأقسم بالله لكم .. أنني الآن أغبطكم وليس أحسدكم .. فألف مبروك عليكم ( هذه اللمَّة فيما بينكم ) .. وهنيئاً عليكم إفطاركم بين الأهل والأحبة والجيران .. ويا ليتني ويا فرحة روحي وقلبي وعقلي ونفسي وكلي على بعضي .. لو اني الآن كنت فيكم ومعكم وبينكم لأشارككم (( لمتكم )) هذه .. لذا رددوا معي من الآن .. اللهم ارحمنا وأرحم أيام زمان .. اللهم اجعلنا جميعاً من عواد شهر رمضان .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .....
بقلم / جمــال أبــــو النســــب
الولايات المتحدة الأميركية / كاليفورنيا
4/8/20114
4 رمضان 1432 هـ
المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"