أخبرنا الله عز وجل في كتابه أنه أكمل الدين ورضِيه لنا فقال تعالى : "اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينا" (المائدة 3)، والدين كما عرفه العلماء هو "وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى الصلاح في الحال، والفلاح والمآل"، وهذا التعريف يكشف لنا تعلق الدين بالحياة الدنيا والآخرة، وأن غايته صلاح الناس وسعادتهم في الدارين .
والقرآن يخبرنا أيضاً أن الدين يشمل كافة مناحي الحياة، قال تعالى : "قل إن صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أُمرتُ وأنا أول المسلمين" (الأنعام 162/ 163)، هذا الشمول الذي يتناول جميع النواحي التي تحيط بالناس، وهنا نجد أن مواقف الناس من شمولية الدين والشريعة تتباين، فهناك من يأخذ الإسلام بشموليته وتنوعه، وهناك من يركز على نواحٍ من الدين فقط كالعبادات أو الأخلاق أو الهدي الظاهر، ولكن الغريب هو موقف العلمانيين حين ينتقدون تمسك المسلمين بالعبادات والأخلاق والشعائر بحجة أن الدين أكبر من الصلاة واللحية والحجاب وترك القروض الربوية لكنك تجدهم أيضاً يرفضون أن يكون للدين علاقة بالسياسة والاقتصاد وسلوك الناس، فأين يكون مجال الدين إذاً ؟؟ .
وهذه الشمولية للدين والشريعة الإسلامية مبثوثة في القرآن والسنة بحيث أنها تتناول كافة احتياجات الحياة إما بشكل مفصل أو من خلال إرشادات عامة وتترك التفاصيل لتطور الحياة والأوضاع البشرية، ولكن هذا الشمول وعلى مدار تاريخ الإسلام لم يكن فيه أمر أو نهي فيه مضرة للناس أبداً، يقول العلامة ابن القيم: "إن الشريعة مبناها وأساسها العدل، وتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمه كلها، ومصالح وحكمة كلها"، وهذا يتضح حين تتأمل عجز المعادين للإسلام – وهم كثر عبر التاريخ – من أن يبرهنوا على مضرة أو خطأ أي أمر أو نهى شرعي، إضافة إلى عدم توصل العلم القطعي إلى اكتشاف حقيقة علمية تتناقض مع أوامر الشريعة .
أليست وسائل الإعلام تخرج لنا كل يوم باكتشافات ودراسات تبرهن على أن أحكام الشريعة حق ومصلحة ولكننا لا ندري عنها .
أليست نصائح الأطباء اليوم للتغلب على المشاكل الصحية العصرية بسبب ما انتجته الحداثة من وسائل وأساليب وأنماط هي عودة لمقررات وتوجيهات الشريعة، كالنوم المبكر والاستيقاظ المبكر والبعد عن المسكرات والعناية بالنظافة الشخصية وعدم الإسراف في الطعام والشراب واستعمال السواك والبعد عن الأطعمة المحرمة – التي ثبت ضررها طبياً – وهكذا .
وعلى مستوى الذوق والتهذيب نجد الشريعة أمرت البدو في الصحراء بالتزام الآداب – الإتيكيت- فلا تأكل إلا من أمامك واعتنِ بشعرك ولباسك ونظافته واستعمل العطر وتجمل في المناسبات. وهناك ترتيب لإلقاء السلام فالراكب يسلم على الماشي، والمار يسلم على الواقف، والواقف يسلم على الجالس، والقليل يسلم على الكثير.. وهكذا في قضايا الاقتصاد حيث يبحث العالم الغربي اليوم في الشريعة الإسلامية عن حلول لأزماته المالية، وكذلك في السياسة فأوامر الإسلام بالعدل والأمانة والشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي ضمانة الإصلاح السياسي وهكذا .
فالإسلام جاء بدين فيه شمولية لكافة مناحي الحياة، ووضعت هذه الشمولية في دستور الإسلام أي في القرآن والكريم والسنة النبوية، وذلك لتكون ركنا أصيلاً لا مكوناً ثانوياً، لأن تصرفات المسلم تقوم على أنها استجابة لأوامر الله عز وجل، الذي خلق الحياة وما فيها "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا" (الملك: 2)، ووجود الشمولية في القرآن والسنة جعلها أمراً شائعاً بين المسلمين وليست خاصة بفئة منهم، لأن المسلمين جميعاً يقرؤون القرآن والسنة بخلاف الأديان الأخرى التي كانت تحرم الاطلاع على الكتب المقدسة .
ولكون هذه الشمولية مبثوثة في القرآن الكريم والسنة النبوية فإنها أصبحت ثقافة شعبية عفوية بين المسلمين، وأصبحت هذه الشمولية تستوطن اللاوعي عندهم، فهم حين يمارسون كثيراً من الشعائر ويتجنبون كثيراً من الأشياء بناء على أوامر القرآن والسنة ينتج عن ذلك آثار إيجابية مادية ومعنوية وإن لم يدركها الناس، فالمسلمون تندر بينهم حالات الانتحار والأمراض النفسية مقارنة بغيرهم من الأمم والشعوب، لأن كثيراً من مضادات الانتحار والأمراض النفسية تعمل بينهم بعفوية وتلقائية دون وعي منهم، ومن هذه المضادت عقيدة الرضى بالقضاء والقدر والصبر واليقين بالعوض عن هذه المصائب في الآخرة، والمسلمون رغم فقرهم الشديد في بعض البلاد لم تقم بينهم المذابح والثورات بسبب التزامهم – المنقوص – بإخراج الزكاة والصدقة وإنفاق المال، ونظام الميراث والمسؤولية عن الأهل والجيران، والمسلمون في المناطق الموبوءة بالإيدز أقل الناس إصابة به بسبب بعدهم عن الزنا وبسبب ختان الرجال!! .
ورغم تقصير البنوك الإسلامية في بلورة كامل الفكر الإسلامي الاقتصادى إلا أن تقيدها بحرمة الربا، جنّبها خسائر فادحة في الأزمة المالية العالمية بحسب تقرير لصندوق النقد الدولي .
إن إدراك شمولية الدين وغايته بتحقيق السعادة والصلاح للناس قضية مهمة في وقتنا الحاضر خاصة مع ضغط الحياة الحديثة على الفطرة البشرية في العالم كله، ففي الغرب حين يبحثون عن مُعين خارجى يجد بعضهم الحل في الإسلام (يُشهر سنويا في أمريكا 25 ألف شخص إسلامَهم) في حين يلجأ البعض الآخر لثقافة الشرق ولذا في الغرب الآن رواج للبوذية وبعضهم يلجأ لكتب التطوير الذاتي، والتي أصبحت جزءاً مهما في حركة التعريب المعاصرة، ولكن المسلمين بعد أن يقرؤوأ هذه الكتب غالباً ما يجدون أنهم أمام شعائر الإسلام من جديد لكن بحلة غير إسلامية .
فحين تطالع روائع الكتب العالمية اليوم في مجال التنمية البشرية والتطوير تجدهم يخلصون لبديهيات الشريعة الإسلامية ولكن بعد رحلة طويلة من العذاب والمشقة، فعلى سبيل المثال كتاب: "الراهب الذي باع سيارته الفيراري" لروبن شارما والذي وضع على غلافه أنه بيع منه مليون نسخة، وتقوم فكرته على محامٍ أمريكى ناجح يسقط صريع المرض ومن ثم يسافر للهند – في إشارة لإفلاس الغرب وحاجته للشرق!!- ومن ثم يبحث عن رهبان الحكمة الذين لم يلتقوا بأحد – لكن الأمريكى حتى هنا يتفوق ويجدهم في الجبال الغامضة!!- وبعد هذه الرحلة الشاقة يكون أول حكمة لهم هي الاستيقاظ قبل الفجر والتأمل، والمسلمون في غنية عن معرفة هذه الحكمة بهذا العناء لأنهم يمتثلون أمر الله عز وجل بالقيام لصلاة الفجر .
ولذلك من الواجب على العلماء والدعاة اليوم تقديم رؤية الإسلام الشمولية في القضايا العصرية التي يهتم بها الجيل الجديد من القرآن والسنة بشكل مبسط وربط هذا بحكايات من تاريخنا القريب والبعيد، بدلاً من بقائنا أسرى لترجمة كتب الغرب التي تجمع سميناً وغثاً، لأن في هذا تقريباً لحقائق الشريعة لأجيالنا الشابة وبلورة للرؤية الإسلامية وإظهاراً لشمولية الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان، ودعوة للمسلمين وغيرهم للتمسك بحبل الله الوثيق الذي سيوصلهم للسعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة وهي غاية الدين .
أسامة شحادة
8/10/2011
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"