من الطوبجي الى لوس أنجلس .. من الحلم الى السراب ج5 " ليلة ابتداء الألم" – احمد ابو الهيجاء

بواسطة قراءة 2392
من الطوبجي الى لوس أنجلس .. من الحلم الى السراب ج5 " ليلة ابتداء الألم" – احمد ابو الهيجاء
من الطوبجي الى لوس أنجلس .. من الحلم الى السراب ج5 " ليلة ابتداء الألم" – احمد ابو الهيجاء

ليلة ابتداء الالم

هو وطن اكبر من كل الجغرافيا ....واكبر من كل القارات ..تستطيع ان تحلم به ...يستطيع ان يعيش فيك ...لكنه الان اصغر من ان تموت فيه ...وانت في منفاك , هنا او هناك.

يحاولونك اليأس ...يبددون كل السبل بين وعيك الحالم للدخول فيه ...ويقطعون كل اواصر حلمك الواعي للوصول اليه..

حاول ان تعيد شريط الذاكرة المتعب المدمى , قليلا ...ستكتشف العجب ....وستعثر على اجزاء من ذاتك هي عزيزة لكنك فقدتها قبل سنين.

توقف فقط عند اللحظة التي رأيت فيها اول خوذة لجندي امريكي يسير امام دبابته ...حتى وصولك الى منفاك الحالي.

فكر قليلا وانت تختلس البصر الى ماضيك القريب جدا وتمعن حولك ثم قرر: هل انا على صواب ؟ هل كان لي ثمة خيار اخر؟هل اتخذت القرار الصحيح؟!!

حتما سيحيلك شريط الذكريات الى مشاهد تراجيديا سوداء وصور مفجعة لا تدري الان كيف عشت تفاصيلها هناك ...في بغداد.

تلك الليلة الكارثية الرهيبة ...وذاك اليوم الكابوسي المرعب ...الم تر قلبك يقطر دما امامك على الرصيف تحت جنازير اول دبابة امريكية دخلت الزقاق...بصمت غريب كأنها افعى....ما ان اجتازت العمارة 9 ..قادمة مع فوج الافاعي الغريبة المرعبة؟؟!!

كان ذلك الصباح ضبابيا باردا ....ام انه كان تحت تأثير دخان الافاعي؟؟

انت حتما فقدت ذاكرتك تلك اللحظة ..او فقدت حتى ذاتك..وبعضنا لم يجد ذاته حتى الان.

عند فوهة الدبابة الصامتة الاولى ...تأكدت اني ارى كوفية تحترق..هل تتذكر شعورك تلك اللحظة؟؟!!

من منكم استطاع ان يعد طعنات السكاكين في احشاءه؟؟!! لا تقل لي انك كنت حائرا في التقاط حس ما او وجع ما .

اتذكر صرخات ابنك الصغير او ابنتك او اخاك الصغير , ليلة الذبح الاخيرة؟؟! ام هي ليلة الذبح الاولى....؟؟

كادت الحرائق ان تشعل بيتك القريب بعد اخر طلعة جوية قذفت جحيما لا يبعد عنك اكثر من مائة مترا..!!

هل تذكر ...؟  بعدها ساد صمت في الاجواء لن تنساه ما حييت ...

هل استطعت ان تدرك نفسك تلك الليلة ؟؟!  هل كانت مفاهيم الانسانية خاصتك ...هي ذاتها التي قدر لك ان تعيشها بعد ان انجلى الغبار وانطفأت الحرائق ؟؟  اي قلب حملته تلك الليلة عندما توجهت ...مع عائلتك .. والى الان لا تدري كيف ..الى شقة قريب لك في الحي المجاور وهو ليس ابعد من مرمى حجر عن شقتك في البلديات؟؟!!
ام نسيت انك ليلتها قاتلت كي تعرف مصير الاحبة الموزعين على المساحة الجغرافية لبغداد...من البلديات الى تل محمد الى حي الجهاد الى حي الصحة الى الداوودي الى الطوبجي الى الحرية الى شارع ابي طيارة بالدورة ؟؟  لكنك لم تفلح ..وهم لم يفلحوا.

اقترب قليلا من عناوين الدمار التي تهيأت لك وابحث بينها عن:  انهزاماتك المتكررة امام سحق الجمال البغدادي.. وتحويل بغداد الى مستنقع للرذيلة بكل مواصفاتها البشعة.

اي خطيئة تلك التي ارتكبتها بغداد لتحيلها اياد قذرة من ابناءها, مع الافاعي الجدد, الى شرذمة بنايات تشتعل وشوارع قبيحة مليئة باشلاء ابناءها ودباباتها؟!!  كيف اصبحت بغداد عبارة عن صبية كانت جميلة فقبحها وشوهها جهنميون وهم يتبادلون الادوار في

هتك شرفها؟؟!!

ثم فيما بعد  ...هل نسيت ما فعلته العقول الاثمة باحباء لك واقرباء واصدقاء؟؟ الم تتحول ساحة كرة القدم في نادي حيفاك الى مخيم لاكثر من مائة عائلة هم اول ضحايا الفرز الجديد للعنوان الجديد : العراق للعراقيين.؟؟!!

ام نسيت ...اين الماء؟؟ اين الكهرباء ؟؟  بل اين الهواء ... اين الحياة ؟؟

وهكذا كان ...عندما ابتدأ موسم حصد الرقاب الفلسطينية وامتد من بغداد الى غزة ...خرجوا معك وهم يهتفون لروح الشيخ احمد ياسين ... قالوا نحن معكم ... ودمنا دمكم ... المصاب واحد ... وعزائكم عزاءنا...

خدعوك ثم استنفروا كل قواهم الظلامية لتبدأ مواكب الاموات من حولك تتسارع ....هذا صديقك ... وذاك جارك ... وهولاء اقربائك واستمرت الفجائع ...ابن شقيقتك ...زوج شقيقتك ....و...و...

الهذه الدرجة لحمنا رخيص؟؟!!هل ما حولنا كان خداعا ؟؟!! هل هو مبدأ التقية ..ام هو حقد دفين ..؟!!

ما عنوانك ؟ لاجئ...؟ عليك ان تنسى.

من اين انت ؟؟ فلسطيني ؟كي تعود الى امك او زوجتك ,يجب ان تمزق هويتك وتبرز بطاقة تعريف جنوبية .

اصبح من المستحيلات ان تكون انت .... يجب ان لا تكون فلسطينيا ... اياك ان تكون فلسطينيا.. سيقتلوك ان كنت فلسطينيا ..

وقائمة الضحايا تطول ... ولم يعد ثمة اماكن لقبور جديدة في (الغزالى) ...ولكن ...هل من صرخة احتجاج ؟؟!! هل من وقفة امام الموت؟؟... لا تنتظر عزاء من احد ...فهم مشغولون هناك بترتيب الكراسي بين رام الله وغزة... وليس لك سوى واحد احد

اصبحت اسير فكرة واحدة ... بغداد لم تعد بغداد.. كما عهدتها ...اين انت؟؟ اي مدينة هذه؟؟ بغداد تقزمت ووضعتك في علبة ضيقة جدا من العبث ...واللاجدوى... وبدأ يسيطر على اجوائها فيروس جديد مفزع مخيف..اسمه : الطائفية ... الذبح على الهوية.

ان تسير في مدينة ولدت فيها , ومعك .... في داخلك مليون قيد ...يعني ان كل الاشياء من حولك ستكون اما بعيدة عنك.. ولم تعد في متناول اليد ...او انها قبيحة فتبتعد عنها ...بل وتهرب منهافالقيود تجعل كل الاشياء نافرة ..منفرة .. خربة ... قبيحة ..باستثناء الحرية ...فأن تكون حرا... كل الاشياء حولك حتى الكئيبة البشعة ستراها جميلة ... فرؤيتك للاشياء وانت حر بلا قيود ستكون اكثر اشراقا , واجمل.. اين ستدرك هذا المعنى الجديد للحرية ؟

عندما تخرج من بيتك وتشعر انك في زنزانة .. ويحتضنك رعب هائل من المجهول ...وتودع احبابك .. لانك قد لا تعود ...في كل مرة ستكون انت غيرك ..عندما تعرف ان حواجز الموت في الشارع ..وكمائن القتل الممنهج تتربص بك, تدرك ان على الارض جهنم اسمها بغداد.. وهي لم تعد تغريك بدجلتها .... لا هواءها ولا ماءها ولا ارضها ولا الذين فوقها ... هم خدعوك ...ثم قتّلوك ..ثم اجبروك على ان تعي وتقتنع سرا وعلانية وتقرر : يجب ان اغادر بما تبقى من دمي ...يجب ان اترك هذا المكان ... هذا الجحيم.

لانك اكتشفت نفسك على حافة سكين هائل ..فوق حبل مشدود يشتعل من طرفيه... وفي الاسفل مقصلة ..

وبسرعة ودون ان تلتقط انفاسك ... وبعد ان تدفن قتيلا اخر من الاحبة ...تحاول لملمة اجزائك المبعثرة ... وتصنع منها انسانا بالكاد يستطيع الوقوف من جديد ...

هكذا يريدونها ...حياتك , خالية من اي حقيقة باستثناء الموت ...  يريدونك خيالا فقط بلا واقع ..والمحال اقرب الى ذاتك... يجعلونك تهرب حتى من نفسك ...وتجتاح مساحات ماتبقى من ذاكرتك غيوم رمادية وتتساءل : انا لم اعد انا ... والناس غير الناس ... والمكان غير المكان ... لم البقاء اذن...هنا ؟؟!!

وتحتلك موجات الحزن ... احتلالا كاملا ...فلا تقوى على شئ غير الالم..وتصبح قاب قوس واحد او ادنى من الهستيريا والجنون.

ذاتك , قد تقفل عليها ازرار القميص وتحمل بقاياك معك ..وترحل . احلامك.. لا يستطيع احد ان يصادرها . ذاكرتك ..وهي هلامية الان ... مرتبكة جدا وعناوين السنين الاخيرة فيها قاسية ومؤلمة, لكنك تعي ما حولك وبامكانك سحب الذاكرة معك بالذي فيها من رصيد ودخان . ماذا تبقى ؟!! اثاث البيت ؟ السيارة ...؟ الجدران ؟؟ انت دفنت موتاك من الاحبة ...ايهمك بعد ذلك .. بقايا جدار واخشاب وحديد؟؟! عندما تخسر دمك ... لا يعنيك ما تبقى ..ولا تبالى ان هدرت الماء ...بعد ان فقدت لحمك ودمك الغالي.

لكن ماذا عن ذكرياتك ؟؟ طفولتك ؟؟كتبك ؟؟ ماذا عن ..؟؟!!!  لاشئ... دع اشيائك الصغيرة هذه في الغرفة المقفلة , وارحل .

وعندما تجتاز آخر كمين للموت ...آخر نقطة للتفتيش, باتجاه الصحراء ...في الطريق الى الحدود ...لا تصدق نفسك , تنظر الى مقاعد الجمسي خلفك ...تجد الطفلة نائمة ... وخليط عجيب من الاحاسيس تقرأه على وجوه بقية العائلة ...الحزن الممزوج بالحسرة ..والطمأنينة الممزوجة بالقلق ..والانتظار المفزع بالالم ..تحاول ان تغفو قليلا ..وما ان تقفل عينيك حتى تندلع الاف الحرائق في وجهك : اين يذهب شريط الذاكرة الملتهب ؟!! انت لا تستطيع ان تغلفه بجلدة رأسك وتتركه هناك بين الكتب في البيت المقفل .. بالتأكيد يجب ان تحمل ذاكرتك المجبولة بالدم معك ...في ثنايا هذا الشئ الذي يقف فوق الرقبة والمدعو : رأس.

وترفع يدك .. تتحسس رأسك وتلتفت الى الخلف مرة اخرى .. كأنك تريد ان تتأكد انك وهم معا في الطريق الى ... الى اين ؟؟؟

حضروا الجوازات رجاء ...وصلنا الحدود.

وللبدايات قصة اخرى ...

 

أخوكم: أحمد أبو الهيجاء

لوس أنجلس

23/2/2011

 http://www.paliraq.com/images/paliraq2011/abo-alhaijaa/005.jpg

المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع

"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"