كلمات قصيرة وإشارات عابرة وتذكرة عاجلة، قد تُقَلِّب المواجع وتُقلِق المضاجع، لكن لا خير فينا إن لم نتناصح ونتصارح، سيما في زمن طغت فيه الماديات وانغمس الناس في الملذات، واستحسنوا الهوى دون النظر في الانعكاسات والسلبيات والمآلات!
الأخوة الصادقة: هي علاقة وثيقة وطيدة متبادلة توجب المحبة في الله، ممزوجة بالإيمان مقرونة بالتقوى، هي كلمة يعطر أريجها الأرجاء، وعبارة تفيض بالحب والإخلاص والوفاء، هي مدينة مسورة لا يدخلها إلا أهل الصدق النجباء.
الأخوة الصادقة علاقة مثالية جميلة، يعيش أهلها سعادة حقيقية في الدنيا، وتبقى متصلة في الآخرة، بعيدة عن المصالح الضيقة والمنافع المؤقتة والشوائب المكَدِّرة، قائمة على الثقة والمودة والبساطة، أساسها الصدق وفروعها الكلمة الطيبة وإحسان الظن والألفة.
أخوة الصدق قائمة على التحابّ لا التباغض.. التكامل لا التآكل.. التشارك لا التراشق.. الإحسان لا النكران.. التراحم لا التلاطم.. التطاوع لا التنازع.. التواصل لا التَنَصُّل.. التناصح لا التفاضح.. المؤازرة لا الخذلان!
ذكر عليه الصلاة والسلام نموذج فريد وحالة رائعة للأخوة الصادقة، التي لا تبتغي عَرَضَ الدنيا ولا المصالح الضيقة والحاجات العارضة، أنَّ رجلًا زارَ أخًا لَهُ في قريةٍ أخرى، فأرصدَ اللَّهُ لَهُ، على مَدرجَتِهِ، ملَكًا فلمَّا أتى عليهِ، قالَ: أينَ تريدُ؟ قالَ: أريدُ أخًا لي في هذِهِ القريةِ، قالَ: هل لَكَ عليهِ من نعمةٍ تربُّها؟ قالَ: لا، غيرَ أنِّي أحببتُهُ في اللَّهِ عزَّ وجلَّ، قالَ: فإنِّي رسولُ اللَّهِ إليكَ، بأنَّ اللَّهَ قد أحبَّكَ كما أحببتَهُ فيهِ.[1]
يقول ابن الجوزي: وَفِي هَذَا الحَدِيث فضل زِيَارَة الإخوان، وَهَذَا أَمر بَقِي اسْمه وَذهب رسمه، فَإِن الإخوان فِي الله عز وَجل أعز من الكبريت الْأَحْمَر.[2]
أخوة الصدق يلزمها حقائق عملية وأمور تطبيقية، فهي ليست مجرد شعار يرفع أو كلمات رنانة تُقال، والوصول إلى ذلك يحتاج إلى إرادة صادقة ومجاهدة فعالة، لأن تحقيقها ليس سهلا على النفس، يقول الشافعي: من صدق في أخوة أخيه, قتل علله, وسد خلله, وعفا عن زللـه.[3]
الأخوة الصادقة تعرف في المواقف لا سيما بمواطن الابتلاء والمحن ونوائب الدهر، وتغير الزمان على الخلان، كان أبو الدرداء يقول: إذا تغير أخوك وحال عمّا كان، فلا تدعه لأجل ذلك، فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى، وكان يقول: داوِ أخاك ولا تطع فيه حاسداً، فتكون مثله.[4]
وقديما قيل: في تقَلُّبِ الأحْوَالِ عِلْمُ جَوَاهِرِ الرِّجَالِ.[5]
وليس أخي مَن ودَّني بلسانهِ
* ولكنْ أخي من ودَّني وهْوَ غائبُ
ومن مالهِ مالي إذا كنتُ مُعدماً *
ومالي له إن أعوزَتْهُ النوائبُ
إن الأخ الصادق والصديق الصدوق؛ كالشجرة المثمرة التي أصلها قوي ثابت، وكالبنيان المرتفع الذي أُسِّسَ على قواعد متينة، وهذا لا يتحقق إلا إذا كان بناء تلك العلاقة على ركيزة قوية هي الأخوة في الله.
وليست العبرة في الأخوة الصادقة؛ كثرة اللقاء والتزاور والتواصل والمجاملة والمجالسة، ولكن الأصل صفاء القلوب وإخلاص المحبة، كَانَ[6] بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ مَوَدَّةٌ وَإِخَاءٌ فَكَانَتِ السَّنَةُ تَمُرُّ عَلَيْهِمَا لا يَلْتَقِيَانِ فَقِيلَ لأَحَدِهِمَا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِذَا تَقَارَبَتِ الْقُلُوبُ لَمْ يَضُرَّ تَبَاعُدُ الأَجْسَامِ. أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا. قَالَ: وَلَقَدْ أَبْلَغَ الْقَائِلُ فِي هَذَا حِينَ يَقُولُ:
رَأَيْتُ تَهَاجُرَ الإِلْفَيْنِ بِرًّا * إِذَا اصْطَلَحَتْ عَلَى الْوُدِّ الْقُلُوبُ
وَلَيْسَ يُوَاظِبُ الإِلْمَامَ إِلا * ظَنِينٌ فِي مَوَدَّتِهِ مُرِيبُ
صدق الأخوة ركيزته إعانة كل منا الآخر على طاعة الله ومرضاته، وملازمة النصيحة له وتذكيره بالله سبحانه وتعالى والدار الآخرة، فصديقك الحقيقي الناصح الصالح الصادق" من صَدَقَكَ لا مَن صَدَّقَك"، فالأول يصدقك النصيحة والتذكير دون مجاملة وإهمال، والثاني يُصَدِّقُك بكل ما تقول حتى لو كان باطلا بذلك يكون غاشا لك!!
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ الْأَخْبَارُ الَّتِي رُوِّينَاهَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَقُولُ لِبَعْضٍ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنُ سَاعَةً، يَعْنِي نَذْكُرُ اللَّهَ. وَالذِّكْرُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ إِيمَانٌ مَتَى أَتَوْا بِهِ ازْدَادُوا إِيمَانًا.[7]
فيُذكر كل منا الآخر بفعل الخيرات، ويعينه على أدائها وينهاه عن فعل المنكرات ويعينه على اجتنابها، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: الْمُؤْمِنُ مرآة أخيه، إذا رأى فيه عيباً أصلحه.[8]
وهذه كلمات جامعات للحسن البصري رحمه الله تكتب بماء الذهب، في بيان حقيقة الأخوة الصادقة وكيف تكون، فيقول: إِنَّ الْمُؤْمِنَ شُعْبَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ بِهِ حَاجَتَهُ، إِنَّ بِهِ عِلَّتَهُ، يَفْرَحُ لِفَرَحِهِ، وَيَحْزَنُ لِحُزْنِهِ، وَهُوَ مِرْآةُ أَخِيهِ، إِنْ رَأَى مِنْهُ مَا لَا يُعْجِبُهُ سدَّدَهُ وَقَوَّمَهُ، وَوَجَّهَهُ، وَحَاطَهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، إِنَّ لَكَ مِنْ خَلِيلِكَ نَصِيبًا، وَإِنَّ لَكَ نَصِيبًا مِنْ ذِكْرِ مَنْ أَحْبَبْتَ، فَتَنَقُّوا الْإِخْوَانَ وَالْأَصْحَابَ وَالْمَجَالِسَ.[9]
فالأخوة الصادقة كاليدين إذا التقتا غسلت إحداهما الأخرى، حتى تصبحان نظيفتين نقيتين ولا تستغني إحداهما عن اختها!
وقالوا: الأخ الصادق من أهدى إلى أخيه عيبه وحفظ له غيبه.[10]
قَالَ عطاء تَفَقَّدُوا إِخْوَانَكُمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ؛ فَإِنْ كَانُوا مَرْضَى فَعُودُوهُمْ، أَوْ مَشَاغِيلَ فَأَعِينُوهُمْ، أَوْ كانوا نسوا فذكروهم.[11]
ومن عجائب الإيثار والأخوة الصادقة ما أورده القرطبي في تفسيره: قال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي- ومعي شي من الماء- وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك، فأشار برأسه أن نعم فإذا أنا برجل يقول: آه! آه! فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم. فسمع آخر يقول: آه! آه! فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات. فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.[12]
لكن المتأمل بالحال المرير والواقع المؤلم، لِجُلِّ العلاقات الأخوية الظاهرة، يجد بأنها أخوة جوفاء لا روح فيها، وعلاقات زائفة لا صدق فيها، وممارسات نرجسية لسان حالها الأنانية وحب الذات، بعيدة عن الإيثار ومحبة الخير للآخرين!
فالمحبة في الله هي الأصل، وما سواها ينتهي ويضمحل؛ فمن أحب إنسانا لماله سرعان ما تذهب بزوال المال، ومن تودد لغيره لمنصبه وجاهه، فهو لا يحبه لشخصه بل لعرض من الدنيا سيزول يقينا، ومن تقرب لآخر لتحصيل مكاسب عابرة، من التسلق والوصول لأغراض لا يمكن الوصول لها إلا من خلاله – وإن كان في الظاهر تحت شعار الأخوة!- فما أرخص هذه العلاقة بل هي وصولية مقيتة!
رأيتُ الناسَ قد مالُوا *
إلى مَن عندَهُ مالُ
ومَن ما عندهُ مالُ * فعنهُ الناسُ قد مالُوا
وقيل لبعض الولاة كم لك صديق؟ فقال: أمّا في حال الولاية فكثير، وأنشد:
الناسُ إخوانُ مَن دامت لهُ نِعمٌ * والويلٌ للمرءِ إن زلّتْ به القدَمُ
ولما نُكب علي بن عيسى الوزير لم ينظر ببابه أحداً من أصحابه وآله وإخوانه الذين كانوا ملازمين له في حال تصرفه واشتغاله، فلما ردت إليه الوزارة اجتمعوا إليه وعطفوا عليه وجعل كل منهم يأخذ في السبق للقياه والنظر إلى محياه،[13] فحين رآهم كذلك أنشد:
ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها * فكيف ما انقلبت يوماً به انقلبوا
يعمون أخا الدنيا فإن وثبت * عليه يوماً بما لا يشتهي وثبوا
لا يحلبون لحيّ درّ لقحته * حتى يكون لهم شطر الذي حلبوا
وختاما:
تعاهد نيتك وأخلص صداقتك، وتخلص من كل شائبة تكدر صفو علاقتك مع الآخرين، ولا تكن ممن لا يسأل عن إخوانه إلا عند الحاجات، ولا يتواصل معهم إلا وقت المُلمَّات، ولا تنظر في أخُوَّتِك النظرة المادية المحضة، ولا المصلحة المتبادلة المؤقتة، فخير الأصدقاء من قربك إلى الله، وشرهم من قربك إلى الدنيا وباعدك عن الآخرة!
20/11/2015
[1] صحيح ملسم.
[2] كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/577).
[3] طبقات الشافعية الكبرى (2/138).
[4] قوت القلوب في معاملة المحبوب (2/367).
[5] مجمع الأمثال لأبي الفضل الميداني (2/90).
[6] العزلة للخطابي ص41.
[7] تعظيم قدر الصلاة (2/787).
[8] صحيح الأدب المفرد ص106.
[9] الزهد والرقائق لابن المبارك ص232.
[10] غرر الخصائص الواضحة ص598.
[11] إحياء علوم الدين (2/176).
[12] تفسير القرطبي (18/28).
[13] غرر الخصائص الواضحة ص598.