ما إن تسمع مضيفة الطائرة تطلب منك بصوتها المهذب ضرورة ربط أحزمة المقعد استعدادا للهبوط في مطار نيويورك، يداهمك خلال دقائق صوت ارتطام عجلات الطائرة بالأرض التي افتقدتها منذ 13 ساعة، ليعلن قائد الطائرة وطاقمها عن انتهاء الرحلة بسلام وهم يهنئونك بسلامة الوصول متمنين لك طيب الإقامة في بلد الحرية والتحرر من كل ما قيدتك به السنين مما مضى من عمرك، لتجد على باب الطائر بعد أن يفتح طابور من المضيفات يعلو شفاههن سيل من الابتسامات، يشكرنك لاختيارك شركة عالية الأردنية وقد فاتهن أنك لم تختر لا الشركة ولا حتى أمريكا نفسها ولسان حالك يردد ما البديل إن كان لا بديل .
وقد اعتدنا بأن المرشح دوما واحد والاختيار دوما لهذا الواحد، لأنه لا بديل له و لأنه لا يعقل أن تبقى بلدان العرب بدون رئيسا يحكمها، والجنون بعينه أن تبقى أنت في صحرائك بضع سنين فعليك أن تختار الاختيار الأوحد(( أمريكا))؟؟؟ عندها ستشعر بصوت يهمس في داخلك: "أخرج أيها المنسي من خوفك، من قهرك، من ضيمك، أزح عن كاهلك ما ثقل من حملك أو انفض عن كفنك تراب قبرك، فاليوم أنت هاهنا لتحصد ثمار صبرك ولتجني شيئا من الحرية لما تبقى من عمرك".
ولكنك عندما تطأ قدميك أرض المطار تحس وكأن مطرقة قد هوت على مؤخرة رأسك من هول ما ترى وستضع كلتا كفيك على صدرك، فالليل هنا استحال نهارا والناس من حولك تعددت ألوانهم وأجسامهم، وألسنتهم ومعتقداتهم ودياناتهم، وكأنك تعيش حلما بأعين مفتوحة أو كأنك تعيش واقعا دعيت إليه ليلة احتفال لأمر ما، أو كأنك في كرنفال.
ستعجب لما لم تره طوال عمرك، ولم تجرؤ على مناقشته حتى في ذاتك وقد أصبح كل شيء من حولك يذكرك بأنك إنسان، لتدرك حينها ماذا تعني حقا كلمة إنسان، فالكل يتسابق ليبتسم بوجهك ويقول لك مرحبا وكأنهم يعرفونك منذ سنين، الكل يستقبلك بكلمة هل لي بتقديم المساعدة لك، الكل يسارع لإنجاز معاملاتك لتخرج من المطار بعجالة ودون أي تأخير.
تجد في استقبالك أناسا لا تعرفهم لكنهم يعرفونك وينادوك بالاسم، رغم أنك لم ترهم من قبل حتى في أحلامك يصطحبونك أنت وأمتعتك وما تحمل من جراح وهموم إلى حيث ستسكن، وهم يرقبون الفرحة التي علت وجنتيك وأنت تبادلهم الابتسامة، لكنهم لم يدركوا أنك قد أفلحت بعد جهد كبير بأن تخفي عنهم ما يجول في خاطرك، بأن الفلسطيني منذ الأزل كتب عليه دوما الترحال ليبدأ من دون الصفر ولم يزل ؟؟
رحلة صراع مع الذات وخوفا جديدا من المجهول في هذا البلد المجهول ،والسير بثبات في أول خطوة على طريق المستقبل المجهول أيضا وفي سرك يتردد سؤال لم تجد له إجابة الآن: هل حقا أنا في أمريكا أم أنني مازلت أترنح بين الحقيقة أم أنك في خيال ؟؟!! وللحديث بقية أن كان هنالك في العمر بقية أن شاء الله ..
بقلم / جمال أبو النسب
9/2/2011
المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"